Logo
صحيفة يومية تصدر عن مؤسسة المدينة للصحافة والنشر
عبدالمنعم مصطفى

مأزق الاختيار والاضطرار.. من الجزائر إلى بريطانيا

A A
أتابع بشغف ما يجري منذ تصويت غالبية البريطانيين لصالح الخروج من الاتحاد الأوروبي (بريكست).

كما أتابع بشغفٍ أكبر ما يجري في الجزائر عند منعطف تاريخي حاد، سوف يتقرر بعده، مستقبل الجزائر، ربما لعقودٍ طويلة مقبلة.

في حالة (بريكست)، اتخذ شعب أعرق ديمقراطية في العالم وأكثرها نضجًا، قراره بغير خطة، ولا برنامج، ولا جدول زمني، ولا حتى دراسة جدوى!!.. هكذا قرر غالبية البريطانيين، في لحظة هيمنت فيها مشاعر الاستكبار، أو الاستعلاء البريطاني التقليدي، القفز من قطار الاتحاد الأوروبي أثناء سيره، غير مبالين بتوابع القرار، ولا بأعباء تنفيذه.

ما جرى لاحقًا في بريطانيا بعد تصويت الأغلبية على الخروج من الاتحاد الأوروبي، بدا في أغلبه، محاولة لاستبطاء الخروج، بل وفي بعض الأحيان، بدا وكأنه محاولة للالتفاف على نتائج الاستفتاء، سعى بعضهم خلالها إلى تهيئة المسرح، لإجراء استفتاء جديد، قد يطيح بنتائج الاستفتاء الأول.

موجة شعبوية قادت غالبية البريطانيين، إلى التصويت لصالح بريكست، لكن لحظة استفاقة قسرية، قادت كثيرين إلى إدراك أن ما سوف يجري تفكيكه بالتداعي، ليس العلاقة بين بريطانيا والاتحاد الأوروبي، وإنما العلاقة داخل بريطانيا ذاتها، فيما بين إنجلترا واسكتلندا، أو بينها وبين ويلز وإيرلندا الشمالية.

الخوف من عملية تفكيك بالتداعي، لمكوِّنات المملكة المتحدة، هو ما قد يُوقظ الوعي بمخاطر بريكست لدى من صوَّتوا في لحظة مشاعر (شعبوية) لصالح الخروج من الاتحاد الأوروبي.

نفس هذا الخوف الواعي، هو ما يضع سقفًا لحراك شعبي في الجزائر، يرفض إعادة ترشُّح رئيس مريض، لفترةٍ رئاسية خامسة، ويصر على إصلاح سياسي، لا يسمح بتكرار المأزق الراهن في المستقبل.

يخاف الجزائريون من تصعيد الحراك الشعبي عند مستوى يسمح لتيارات الإسلام السياسي بركوب موجته مجددًا، ويسترجعون ذكريات عشر سنوات من العنف المسلح سقط خلالها نحو نصف مليون قتيل وجريح ومفقود، هذا الخوف ذاته بات مصدر إلهام للشعب الجزائري، وللنخبة الحاكمة، في مواجهة المأزق السياسي الراهن.

خوف الجزائريين من عودة سنوات العنف الدموي، وضع بذاته سقفًا للحراك الشعبي، الذي ينشد الإصلاح السياسي، لا التغيير الثوري، ووضع أيضًا سقفًا لقدرة النظام السياسي على الالتفاف على الإرادة الشعبية الصريحة بحتمية التغيير السلمي.

في هذه المنطقة التي التقى فيها الخوف على الوطن، بالخوف من العنف، تبدو الجزائر وكأنها على وشك الدخول في طور جديد تمامًا لم تعرفه منذ الاستقلال قبل أكثر من نصف قرن. هذا الطور الجديد، قد يقتضي وضع أطر عامة جديدة (دستور جديد مثلًا) تستوعب إرادة الشارع في التغيير، وحاجة البلاد إلى الاستقرار والأمن بذات الوقت.

في ظني، فإن قدرة الجزائر على اجتياز مأزق الانتقال إلى طور جديد يُكرِّس قِيَم الحداثة، ويستوعب الإرادة الشعبية، ويرسي أسس الحكم الرشيد، قد تتجاوز قدرة بريطانيا على اجتياز مأزق بريكست وما بعدها.

الجزائريون يعرفون بوضوح الآن، ما الذي ينبغي عليهم تجنبه، لكنهم لا يعرفون بذات الوضوح ما الذي ينبغي عليهم إنجازه، أي أنهم يعرفون ما لا يريدون، ولا يجمعون على ما يريدون. أما البريطانيون، فقد قادهم فرط الثقة في القدرة على الاختيار، إلى منطقة الاضطرار.

مهم جدًا أن نعرف ماذا نريد، مهم جدًا أيضًا أن نعرف ما لا نريد.

بعض التجارب الإنسانية، استمدَّت قدرتها على النجاح، من وعيها بما تريده، وحرصها على تجنُّب ما لا تريده. هذا النوع من الإدراك في حياة الشعوب، ربما جسّد ذروة الوعي، وربما أتاح بلوغ النضج، والإمساك بتلابيب النجاح.

contact us
Nabd
App Store Play Store Huawei Store