Logo
صحيفة يومية تصدر عن مؤسسة المدينة للصحافة والنشر
عبدالمنعم مصطفى

لقمة زائدة تقتل إمبراطورية خالدة!

A A
في شتاء 1981، وبعد أسابيع من اغتيال السادات، وصلت ملكة جمال إسرائيل بصحبة مدير البرنامج العربي في راديو إسرائيل، في زيارة لمصر شملت ضمن ما شملت مكتبي بمجلة أكتوبر المطلة على النيل.

كان وصول جميلة الجميلات التي لا أذكر اسمها، بعد يومٍ واحد من قرار حكومة مناحيم بيجين رئيس الوزراء الإسرائيلي آنذاك، بتطبيق القوانين الإسرائيلية على مرتفعات الجولان السورية المحتلة في الخامس عشر من ديسمبر عام 1981، لم يجرؤ بيجين وقتها على إعلان ضم الجولان، لكن الصحافة العربية تعاملت مع القرار باعتباره ضماً نهائياً، وهو ما أصر بيجين وقتها على نفيه.

سألت ملكة جمال إسرائيل التي أطلقوا عليها وقتها لقب (أميرة السلام)، عن برنامجها في القاهرة، فقالت إنها تعتزم زيارة جامعة القاهرة للالتقاء بالشباب المصري والحوار معه حول تعزيز السلام بين مصر وإسرائيل. قلتُ لها: ماذا ستقولين للشباب المصري بجامعة القاهرة إذا سألوكِ عن قرار بيجين أمس بضم الجولان؟! اتسعت حدقتاها الزرقاوتان، وقالت باستنكار: (it is our safety)!! نظرتُ إلى مرافقها من عرب 48 وقلتُ له بالعربية: (نصيحة، لا تذهب بجميلتك إلى جامعة القاهرة وإلا فإن الشباب هناك سوف يُمزّقونها، عُد بها من حيث أتيت)، لكن الرجل لم يتفهَّم ما قلته، إلا بعدما أبلغته الأجهزة الأمنية بإلغاء الزيارة لاعتباراتٍ أمنية.

موقف بيجين اليميني المتشدد المعروف في إسرائيل بأنه «المادة الخام للصهيونية»، كان هو ذاته الموقف المعلن لقادة إسرائيل البارزين من اليسار، من أول إسحق رابين صاحب وديعة رابين بشأن الجولان، وحتى شيمون بيريز، وإيهود باراك، كانوا جميعاً ملتزمين بفكرة أن الجولان أرض احتلوها، وأنهم ربما ينسحبون منها أو من بعضها لقاء بعض تنازلات سياسية أو إقليمية من جانب دمشق.

لم يَدُر بخلد قادة إسرائيل التاريخيين، فكرة ضم الجولان نهائياً إلى إسرائيل، ليس زهداً بالطبع، وإنما عن سابق وعي، وسابق إصرار، بأن مثل هذا القرار يضع مستقبل دولة إسرائيل في مهب الريح.

يعرف قادة إسرائيل أن الجولان لقمة مسمومة، وأن ضمها قد يُكلِّف إسرائيل مستقبلها كله، لكن نتانياهو، الذي سعى واحتفى بقرار ترامب باعتبار الجولان أرضاً خاضعة للسيادة الإسرائيلية، ربما يتصوَّر أن لقمة الجولان المسمومة لم تعد كذلك، مادام أن من وضعها في فم إسرائيل هو الولايات المتحدة، بإمكانياتها الهائلة التي لم تتح لدولة عبر التاريخ الإنساني كله.

أخطر ما تحت يد الولايات المتحدة من مقوِّمات القوة، هو قوة أمريكا الناعمة، وأعظم ما في مكوّنات قوة أمريكا الناعمة، هو مبادئ ويلسون الأربعة عشرة، تلك التي كرَّست أمريكا زعيمة لما يُسمَّى بـ(العالم الحر) على مدى مائة عام، حاول خلالها كبار صناع السياسة في الولايات المتحدة، المحافظة على سبيكة القوة الأمريكية، المستمدة من قوة النموذج، قبل قوة السلاح.

حافظت أمريكا على مدى قرابة قرن، على خيط حريري دقيق بين مبادئ ويلسون من جهة وبين مصالح أمريكا كقوة عظمى وحيدة من جهة أخرى. وجسد هذا المعنى، تصريح الرئيس المصري الراحل أنور السادات، بأن (99% من أوراق الحل في الشرق الأوسط بيد الولايات المتحدة). لكن توقيع ترامب على قرار أحادي الجانب باعتبار الجولان السورية المحتلة أرضاً إسرائيلية، قد جسّد نكوصاً أمريكياً حاداً عن مبادئ تبنَّتها أمريكا، ووظَّفتها لخدمة مصالحها حول العالم.

إعلان ترامب، يقوض مصداقية الولايات المتحدة كشريك أو وسيط في عملية صنع سلام في الشرق الأوسط، كما أنه يقوض قدرة أمريكا على التصدي لخطط إيران في المنطقة، فضلا عن أنه ينفخ روح الحياة في صراع الشرق الأوسط، بعدما ظن البعض أن لحظة نهايته قد حانت.

تُخبرنا حوادث التاريخ، أن لقمة زائدة واحدة قد حملت إمبراطوريات كثيرة إلى حتفها، وأن غرور القوة قد حمل أصحابه عند منعطفات التاريخ الحادة، إلى مواقع لقوا فيها حتوفهم.

في هذا السياق، وبوعي كامل بثقل وطأة الظرف، وبموجبات الحكمة عند منعطف حرج، جاء بيان مجلس الوزراء السعودي، رداً على إعلان ترامب بشأن الجولان، مؤكداً تمسُّك السعودية بقرارات الشرعية الدولية، وأن الجولان أرض عربية سورية محتلة، والإعلان الأمريكي مخالف للقوانين الدولية، وجدَّد مجلس الوزراء السعودي رفض المملكة التام واستنكارها للإعلان الأمريكي بالاعتراف بسيادة إسرائيل على الجولان السورية المحتلة، وتأكيد المملكة أن محاولات فرض الأمر الواقع لا تُغيِّر في الحقائق شيئاً، وأن إعلان الإدارة الأمريكية هو مخالفة صريحة لميثاق الأمم المتحدة ومبادئ القانون الدولي، وللقرارات الدولية ذات الصلة، وستكون له آثاراً سلبية كبيرة على مسيرة السلام في الشرق الأوسط، وأمن واستقرار المنطقة.

contact us
Nabd
App Store Play Store Huawei Store