Logo
صحيفة يومية تصدر عن مؤسسة المدينة للصحافة والنشر
وائل مرزا

دينٌ.. وسياسةٌ.. وثقافة (١)

A A
بِقدرِ كونِ العلاقة بين المسائل الثلاثة أعلاهُ شأناً عاماً، كثيراً ما تصبح قضيةً خاصةً بالنسبة لكاتب هذه الكلمات.. فبِحُكمِ النشأة والتخصص والاهتمامات والقراءات، أكتبُ في مواضيع تدخل في تلك العناوين جميعاً.. المفارقةُ هنا ثُلاثية الأوجه أيضاً، فحين أكتب في الظاهرة الدينية أجد كثيراً من أصدقائي المثقفين، من غير الإسلاميين، متبرماً من خوضي في مسألةٍ يرون أنها محاولةٌ عبثية للبحث عن إجابات للأسئلة الكبرى التي تواجه عصرنا ومجتمعاتنا.. يحصلُ هذا غالباً بلسان الحال، وأسمع به، أحياناً، بلسان المقال.

الطريف أن الأمر نفسه يحصل حين أكتب في مواضيع ثقافية معينة دون ذكرٍ للدين، وذلك حين أجد أصدقائي الإسلاميين يتململون ويتأففون من محاولتي لـ(البحث عن الحقيقة) بعيداً عما يرونه المجال الوحيد الذي يستحق البحث فيه: (الدين، وتحديداً الإسلام)، للحصول على إجاباتٍ لتلك الأسئلة.

ثم إن نفراً من الأصدقاء المثقفين، الإسلاميين وغير الإسلاميين، يُصابون بالضجر والسأم حين أكتب في السياسة.. إذ يرى الطرفان، والإسلاميون المثقفون بنسبةٍ أكبر، أن هذا مضيعةٌ للوقت والجهد.. بما أن المبدأ والمنتهى هما في الدين أو الثقافة، أو كليهما!

لا مجال للتعميم، بطبيعة الحال، فيما يتعلق بجميع الأصدقاء.. فعلى سبيل المثال، تأتي الفقرة الأولى من الصفحة الأولى من كتاب (أساطير الآخرين: نقدُ الإسلام المعاصر ونقدِ نقدِهِ) للصديق ياسين الحاج صالح على الشكل التالي: «تهتم نصوص هذا الكتاب بالمسألة الإسلامية، أي جُملة القضايا الفكرية والسياسية والأخلاقية التي يطرحُها وضعُ (الإسلام) في العالم المعاصر.. وهو ما يمرُّ، في ما نرى، عبر استشكال الإسلام، أو مُساءلته عن وِحدتهِ وتطابقهِ مع نفسه، وكذلك النظر في عمليات (صنع الإسلام) وبِنائه».. ويتابع الحاج صالح في نهاية الصفحة قائلاً: «يمكن تسمية هذه الخطة: فتحَ الإسلام.. المقصود أن نطرح، نحن وَرَثة الميراث الإسلامي، على الإسلام أسئلتنا، الفكرية والأخلاقية والسياسية، وأن يُجيب عليها إجابات معقولة، لا تتوسلُ السُّلطةَ حجة عقلية».

لمزيدٍ من التوضيح، يقول الكاتب: «تتعارضُ خطةُ فتح الإسلام مع خطةٍ ضمنيةٍ مُقابِلة، ترى أن الدفع المرغوب للإسلام إلى المجال الخاص يبدأ بإبعادهِ عن المجال العام، وعن التفكير والنقاش العام والثقافة». هذا ما يرغب في حصوله جمعٌ من المثقفين، ممن يضعون أنفسهم، كما هو سائد، تحت عناوين الليبرالية أو العلمانية أو الحداثة، بغض النظر عن رأينا في تصنيف المثقفين الحدي، وحَشرهم تحت واحدٍ من هذه العناوين.

«هذا خطأ، في رأينا» يقول الحاج صالح.. ويتابع: «ومُحصّلتهُ المرجّحة معاكِسةٌ لرغبته المفترضة.. فالإهمال الثقافي والفكري للإسلام يُعززُ خصوصيته فعلاً، أو وهمَ الخصوصية، سواءَ أخذت شكلاً امتيازياً عن الإسلاميين، أو شكلاً (تشريرياً) عندَ مُعَادِينَ لهم».. ويختم الكاتب الفقرة بجملةٍ مُعبّرة يقول فيها: «لقد فتحَ الإسلامُ العالم قبل ١٤ قرناً، وهو مدعوٌ اليوم لأن ينفتح على العالم».

النقلُ طويلٌ، لكنه مُعبِّر.. وسأعود للنقل عن الكاتب وغيره في الأجزاء القادمة لهذا المقال.. فالعلاقة، كما ذكَرنا، بين الدين والسياسة والثقافة شأنٌ عامٌ، ومهم.. وهو يتعلق بواقع الناس، وليس ترفاً نظرياً.. من هنا، يستحق الموضوع البحث بعيداً عن الاختزال، ولو كان بدعوى الاختصار.

ثمة حقيقةٌ آن أوان ذكرها اليوم.. فأنا أكتب في (المدينة) منذ قرابة ١٥ عاماً.. ومن ميزات هذه الجريدة الغراء أنها تسمح لي بتجاوز تلك التقاليد الصارمة التي يحسبُها البعض قوانين ثابتة، حين يتعلق الأمر بمقالات (الرأي).. لم يكن لدى الصحيفة وإدارة تحريرها، مثلاً، مشكلةٌ عندما كتبتُ في موضوعين عشر مقالاتٍ متتابعة لكل موضوع، بشكلٍ يغطي ما أراهُ أفكاراً تتعلق بكلٍ منهما.. فأغلب الصحف لا تُحبذُ كتابة مقالٍ بأجزاء، وإن سَمحَت، فلا أكثر من جزءين.. حسناً، نحن نعيش في ثقافةٍ تتثاقل في قراءة الكتب.. ولما كانت هذه ظاهرةً من الصعب إنكارُها، لماذا لا نُبدعُ في إيصال الأفكار بأساليب تتجاوز الأعراف التقليدية؟ هذا ما تفتح (المدينة) لي أبوابهُ على مصاريعها: كتابةُ مقالٍ بأجزاء عديدة.. الإطالةُ في الاقتباس أحياناً عندما أشعر بضرورة ذلك.. إعادةُ نشر جُملٍ أو حتى فقرات من مقالاتٍ نشرَتها الجريدة لي سابقاً.. وأخيراً، الصبرُ على إطالتي أحياناً، رغم التذكير اللطيف بالأمر بين آنٍ وآخر.

هناك علاقةٌ لا مهرب منها بين الدين والسياسة، وهما معجونان عجناً بالثقافة.. لا مفرَّ إذاً من فتح هذا الملف ومحاولة البحث في عناصره.. هذه رحلتنا مع القارىء الكريم في الأجزاء القادمة.. أما الأصدقاء المتبرّمون من كتابتي في هذا الموضوع أو ذاك، ففي وُدّهم ما يغنيني عن تغيير هذه الممارسة.

contact us
Nabd
App Store Play Store Huawei Store