Logo
صحيفة يومية تصدر عن مؤسسة المدينة للصحافة والنشر
عبدالمنعم مصطفى

الجزائر (٢).. أدرينالين الثورة في شرايين السياسة

A A
في أحداث الثورات الجارية، يتدفَّق الأدرينالين في شرايين السياسة بأكثر مما تحتاج الأوطان، أو تتطلب الظروف، فتندفع الشعوب التي طال حجبها عن منصات التغيير، إلى مطالب تتجاوز أقدار السياسة، وقدرات الرجال، وتتضخم الأحلام رافعة معها سقف توقعات الشعوب عند مستويات لا قبل للواقع بإنتاجها. حدث هذا في أغلب التحولات التاريخية التي اكتنفت مرحلة ما بعد انهيار جدار برلين، من أول تفكُّك الاتحاد السوفيتي ذاته، وحتى تفكُّك يوغوسلافيا أواسط التسعينيات، وهو يحدث الآن في منطقتنا بتجليات تتناسب مع خصوصيات الشرق، وطبائع الاستبداد فيه. كانت توقعات الشعوب في كل مرة أعلى بكثير من قدرة طلائع التغيير فيها، على بلوغ تلك التوقعات أو الإمساك بتلابيبها، وكان هذا التفاوت بين ما هو مأمول، وما هو ممكن، مفهومًا لدى مَن يُراقبون المشهد عن كثب، لكن الأمر لم يكن أبداً كذلك، بالنسبة لمَن هُم في شوارع التغيير، يجرفهم طوفان الحدث الثوري، أو ترتفع بهم أمواجه. حدث هذا في كل التجارب التي أفرزها ما يُعرف باسم (الربيع العربي)، وهو الآن يُوشك أن يحدث في آخر محطات ما يُسمَّى بالربيع العربي، في السودان، أو في الجزائر بصفةٍ خاصة. في الجزائر، وهي محور تناولنا في هذا المقال، اعتلى الشعب صهوة التغيير، ونجحت فورات الغضب عنده في اقتلاع رئيس أقعدته سنين المرض، لكن طموحات الشارع تتجاوز حدود تغيير الرئيس، وتلح على مطلب تغيير النظام، بينما يحاول عقل الدولة الجزائرية عقلنة قوى التغيير، وإقناع الشارع الذي تدفَّق الأدرينالين إلى شرايينه بمعدلات تفوق ظروف الجزائر وقدرات النظام بها. فلا النظام القائم يستطيع تقديم حلول لاسترضاء الشارع الغاضب، ولا هذا الشارع الغاضب نفسه يستطيع فرض تغيير ثوري لا يوجد توافق جزائري على أبرز ملامحه. تملك قوى التغيير في الشارع الجزائري في اللحظة الراهنة، مشروعًا واحدًا فحسب، عنوانه: (إسقاط النظام القائم)، لكنها لا تتوافق فيما بينها على الخطوة التالية بعد إسقاط هذا النظام، ولا تملك خريطة واحدة للمستقبل. وبينما لا تملك الدولة العميقة بالجزائر ترف التجربة والخطأ، بعد عشر سنوات من العنف الدموي حصدت قرابة نصف مليون قتيل، فإن محاولاتها لإدارة اللحظة، تبدو محفوفة بالمخاطر، طالما لم تُغادر الجماهير ميادين الغضب. ردود الفعل في الشارع الجزائري، على قرار الرئيس الجزائري المؤقت عبدالقادر بن صالح، بدعوة الناخبين الجزائريين لانتخاب رئيس جديد للدولة في الرابع من يوليو المقبل، تشير إلى إصرار الشارع على إسقاط الدستور الذي دعا بن صالح بموجبه إلى إجراء انتخابات رئاسية، بينما يتحدَّث رئيس الأركان قائد صالح عن محاولات لإسقاط الدولة وإنتاج حالة فراغ دستوري لن تقود البلاد إلا إلى الفوضى.

شخصيًّا، لا أتوقع أن تتجه الأحداث بالجزائر إلى أي من الفوضى أو العنف الدموي، فقد جرى تلقيح الجزائر بكل أمصال مقاومة الفوضى والعنف الدموي على مدى عشر سنوات، أتصور أن الجزائريين قد دفعوا خلالها مهرًا ضخمًا لا يقبل التبديد.

نموذج عقلنة رياح التغيير في العالم العربي بعد أحداث الربيع الكاذب، جسَّدته مصر في تجربة الانتقال بعد إسقاط نظام مبارك، وهو ذاته النموذج الذي يجري استلهامه في تجارب عربية أخرى لعل الجزائر تكون أبرزها. لا أتصور أن تعمل السياسة في الجزائر بمعزل عن قوتين رئيستين تاريخيتين، الأولى هي الجيش، والثانية هي جبهة التحرير الوطني الجزائرية. لكن ثمة مكاسب ينبغي أن تحصل عليها قوى التغيير التي قادت الحراك الجزائري في الشارع، ولا أتصور أن ثمة إمكانية لتغيير الدستور الجزائري القائم، قبل انتخاب رئيس جديد للبلاد، ولا أظن أن الرئيس القادم سيأتي من خارج الجيش أو من خارج جبهة التحرير، فالجزائر التي خرجت مطالبة بالتغيير، لم تُغادر ذاكرتها بعد؛ صور عنف دموي وضع البلاد لعشر سنوات عند حافة الضياع. الجزائر تُرتِّب أوراق المستقبل، بينما ترتعد خوفًا من عودة ماض دموي بغيض، والجزائريين الذين حملتهم الآمال إلى ساحات التغيير، هم أنفسهم مَن ستُلقي بهم المخاوف مجددًا في أحضان جيش لا يجدون الأمان بعيدًا عنه، وفي رحاب تاريخ، ما زالت جبهة التحرير الوطني الجزائرية هي الحامل الحصري لأختامه. شروط التغيير الجذري الذي يتطلع إليه الشارع الجزائري في اللحظة الراهنة، لم تتحقَّق بعد، لا في الجزائر، ولا في أي من دول الإقليم. ما يجري بالمنطقة كلها ليس محاولة لتغيير الواقع، بقدر ما هو محاولة للتكيُّف معه.

contact us
Nabd
App Store Play Store Huawei Store