Logo
صحيفة يومية تصدر عن مؤسسة المدينة للصحافة والنشر
وائل مرزا

دينٌ.. وسياسةٌ.. وثقافة (٣)

A A
سنعود لارتباط الثقافة بكلٍ من السياسة والدين.. لكن العلاقة بين الحقلين الأخيرين تستحق شيئاً من التركيز، بعيداً عن (التسطيح) السائد في رؤيتها، وفهمها، والتعامل معها.. ليس فقط من قبل عامة الناس، وإنما بين كثيرٍ من المهتمين بالمجالين، حتى على مستوى التخصص!

ففيما يتعلق، مثلاً، بجدلية (الديني) و(السياسي) في الساحة العربية خصوصاً، نشرتُ في هذه الصفحة مقالاً عابراً عن الموضوع منذ زمن، أستميح القارئ الكريم في استعادة بعض مقولاته، لأضعها في إطارٍ أكثر شموليةً ضمن هذه السلسلة من المقالات.. ذكرتُ يومها أنه:

«مع كل طلعة شمس، يظهر واضحاً كيف تفرضُ جدلية الديني والسياسي نفسها في المنطقة العربية.. هذه حقيقةٌ بات الاعترافُ بها مطلوباً.. بعيداً عن الشعارات والأوهام والأمنيات.. لأن الإصرار على إنكارها في هذا الواقع العربي والعالمي إنكارٌ لذلك الواقع ذاته.. وإنكارُ الواقع لا يؤدي إلا إلى الفوضى.. في حين أن التسليم بوجود تلك الحقيقة قد يؤدي إلى استيعابها والتعامل معها بشكلٍ يحقق مصالح الشعوب والأوطان في المنطقة على غير صعيد».

لكن السؤال الذي يطرح نفسه: لماذا يحصل هذا؟ فبشيءٍ من التحليل، تجد أن الوقائع والأحداث والتطورات، إلى يومنا هذا، تُفرز حقيقة وجود تلك الجدلية باستمرار، اعترفَ البعضُ بذلك أم تهرّبوا منه.. هذا يدفعك للتساؤل: لماذا تفرضُ هذه الجدليةُ نفسَها على المنطقة وأهلها بهذه الحدّة؟ هل صحيحٌ أن الأمر لا يعدو أن يكون (لعنةً) أصابت ثقافةَ المنطقة وحاضرَها ومستقبلها كما يرى البعض؟ أم أن دلالات الظاهرة أكبرُ من أن يتمّ اختزالها في ذلك التفسير الهروبي (الخفيف)؟ بكلماتٍ أخرى: هل يحاول التاريخ أن يقول شيئا للعرب الذين لا يسمعون المسائل الهامة إلا إذا علا صوتُها وفَرَضَت حضورها عليهم؟ هل تحاول الحضارة الإنسانية أن توصل إليهم رسالة معينة، ولو من خلال الضجيج؟

حاولتُ يومها البحث عن تفسيرٍ للتساؤل بالقول: «هل يمكن أن يكون في تلك الجدلية كمن يوحي للعرب بضرورة مواجهة تحدي البحث عن (نموذجٍ جديد) يتعلق بتلك الجدلية؟ ليست صناعةُ التاريخ ولا صناعة نماذج الحياة حكراً على أحدٍ في هذه الدنيا.. فلماذا نهرب من مواجهة ذلك السؤال؟».

الواقع العربي الراهن، وحتى الواقع الإسلامي العام في حقيقة الأمر، مسكونٌ بهاجسي (الدين) و(السياسة).. هذه حقيقةٌ أخرى لا مفرَّ من الاعتراف بها، بغض النظر عن موقفنا منها.

فقد تمنى البعض في يومٍ من الأيام بأن يصبح (الدين) شيئاً من الماضي.. وتشكّل لوهلةٍ واقعٌ أوهم هؤلاء بإمكانية تحقيق ذلك الحلم.. لكن الحياة البشرية أفرزت واقعاً آخر سرعان ما قضى على تلك الأوهام.. حيث عاد الدين اليوم ليزاحم كل انتماءٍ وكل فكرة، وليجد لنفسه تأثيراً في كل قضية.

ولقد حسب البعض، بالمقابل، أن بالإمكان تهميش (السياسة) ودورَها في عقل العربي وواقعه في يوم من الأيام.. بالتركيز على (الثقافة) و(الدين) مثلاً، وأمِلوا بإقناع ذلك العقل أن السياسة ليست محور الحياة.. لكن التفكيرَ بالسياسة، رغم عجز العربي عن (الفعلِ) فيها.. بات ينام مع العربي، والمسلم، ويستيقظ، بل ويتنفس معهما..

بهذا، يبدو البحث مطلوباً في جدلية الديني والسياسي في العالم العربي، والإسلامي، بشكلٍ مبتكرٍ ومن (خارج الصندوق) كما يقولون.. لأنها قد تؤدي إلى تقديم نموذج (استيعاب) و(استجابة) جديد، هدفُهُ تمكين العرب، والمسلمين، من التعامل مع قضاياهم بحدٍ أدنى من العقلانية والواقعية والمنهجية.. فقط.. لا أكثر ولا أقل.

ثمة تخوفٌ لدى الكثيرين من الروح (الرسالية)، بمعناها (الاستحواذي) حين (تتلبّس) العقل العربي، والمسلم، المعاصر، حين يتعلق الأمر بمثل هذا الطرح، لأن نتيجة ذلك التلبّس كانت مأساويةً في كثيرٍ من الأحيان. هذا تخوفٌ مشروع، ستكون الخطوةُ التالية تحليلهُ وتحريرهُ والحوار فيه.

contact us
Nabd
App Store Play Store Huawei Store