Logo
صحيفة يومية تصدر عن مؤسسة المدينة للصحافة والنشر
وائل مرزا

دينٌ.. وسياسةٌ.. وثقافة (٤)

A A
إذا كان البحث مطلوباً في جدلية الديني والسياسي في العالم العربي، والإسلامي، بشكل مُبدعٍ للوصول إلى ما أسميناه نموذج (استيعاب) جديد، فإن ما يُخيف البعض من مجرد مقاربة هذا الأمر يتمثل في (الروح الرسالية) السلبية التي كثيراً ما تتلبّسُ العرب والمسلمين عند التعامل مع هذه القضية.

والواقعُ القريب لهؤلاء (العرب والمسلمين)، خلال العقود الماضية، يُظهر أن التخوُّف ذاك مشروعٌ ومفهوم. لأن نتيجته كانت مأساويةً دائماً.

فباسم الرسالة القومية، نتجَ التسلط السياسي، ومعه التخلف الاقتصادي والاجتماعي على كل صعيد.. وباسم الرسالة الدينية، نتجت العزلة عن الآخر في اتجاه (الأنا)، وعن الدنيا في اتجاه (الآخرة)، وعن الحاضر والمستقبل في اتجاه (الماضي).. وباسم رسالة الحداثة والعصرنة والتحضّر، نتج ضياع الهوية حيناً، وضياع البوصلة حيناً آخر.

من المُعبّر جداً هنا إيراد تحليل ياسين الحاج صالح في كتابه الآخر (الثقافة كسياسة: المثقفون ومسؤوليتهم الاجتماعية في زمن الغيلان)، وفيه يقول: «(الإنسان المسلم) طوبى ومشروع عند الإسلاميين الجهاديين، وأيديولوجية تبريرية قائمة عند العلمانيين الجهاديين... لو كنا أقل (انبهاراً بالغرب) وأكثرَ تمسكاً بديننا... لكان كل شيءٍ على ما يُرام، يقول الإسلاميون. ولو كنا أقلَّ (مَرضاَ بالغرب)، أقلَّ قَدَامةً وأصوليةً أيضاً، لكانت أمورنا بخير، يقول مجاهدو العلمانية الدنيويون. وفي الحالين، لدينا تمركزٌ مزدوج، حول (الغرب) (وهو منبع الخير مرة، والشرّ مرة)، وحول (الإسلام) (وهو أيضاً منبعُ الحق عند قوم، ومنبعُ الضلال عند غيرهم). الإسلاميون ثقافيون بداهةً (يشرحون المجتمع والسياسة بالثقافة، وبخاصةً الدين، ويُفكرون في الناس كمنسوبين إلى أديان أساساً)، لكن مثلهم أيضاً خصومهم من العلمانيين الجهاديين (يشرحون المجتمع والسياسة بالثقافة، مُختزلةً إلى الدين).... الإسلاميون متمركزون حول السماء والماضي. العلمانيون الرأسماليون متمركزون حول أوروبا وأشخاصهم».

هذا ما تفعله الروح الرساليّة عندما تتملك العقل العربي الذي لا يعرف الحلول الوسط، ويعالج ردود الأفعال بردود الأفعال.. فيصبح مهووساً باستقدام كل ذريعة واستخدام كل وسيلة لتحقيق (رسالته).

لهذا، يُضيف الحاج صالح: «يحتاج الطرفان إلى شبحٍ مخيف يمثل تهديداً وجودياً لهما كي يُسوّغا سياسات فاشية.. هذا الشبح هو الديمقراطية والعلمنة المُتّسعة للمجتمع والسياسة والثقافة عند الإسلاميين، وهو الإسلاميون والأصولية عند العلمانيين.. لطالما كانت الفاشية في حاجةٍ إلى عدوٍ خطيرٍ مخيفٍ لا يُعقل.. يتشاطر الطرفان عدواً واحداً: الديمقراطية، مرةً لأنها حكمٌ بغير شرع الله، ومرةً لأنها ستُفضي إلى (طغيان أكثرية العدد)، أي حكمٍ بغير ما شرّع (العقل)».

و(الجهادية) التي يصف بها الكاتب شرائحَ من الإسلاميين والعلمانيين هي مؤدى (الروح الرسالية) السلبية التي نتحدث عنها، والتي تقف حاجزاً منيعاً في وجه تشكيل رؤيةٍ جديدة للعلاقة بين السياسة والدين، والثقافة بطبيعة الحال.. لكن هذا لا يعني أن يصبح الخيار البديل بالنسبة للعرب والمسلمين متمثلاً في (الاستقالة) الحضارية بشكل كامل.. فتلك عقلية الثنائيات المتقابلة التي تحاصر واقعهم وتخنقه، حين يقفزون على الدوام على أي خيارٍ (ثالث).. لكن مقاربة هذا الموضوع لا يجب أن تكون بالضرورة (رساليةً) سلبيةً على الدوام.

صحيحٌ أن قطاعاً واسعاً في العالم العربي يؤمن (نظرياً) بالمقاربة (الرساليّة).. ويعيش على حلم صناعة التاريخ على طريقة القفزات الضخمة.. رغم هذا، يبدو ضرورياً الاعترافُ، وبصراحة، أن التعامل مع العالم انطلاقاً من المقاربة الرسالية تلك لا يزال، في الأقل، مبكراً كثيراً على عرب اليوم.

ففي غياب شروط فكرية وثقافية واقتصادية موضوعية، لاجتماعٍ بشريٍ متوازن، تُساعد الروح الرسالية على صناعة التاريخ والحياة إيجابياً، صارت الروح الرسالية العربية نقمةً على أهلها حيناً، ونقمةً على العالم بأسره حيناً آخر..

وكما قلنا سابقاً: «ليس هذا إذاً مجالَ طرح مثاليات طوباوية.. ليس مجالَ البحث عن مساهمة حضارية منتظرة سريعة وضخمة، ولا عن دور تاريخي مطلوب يجب أن نصل إليه اليوم، كما يتمنى ويردد الرساليون من كل انتماء، دون أن يشعروا أنهم يُراوحون عند تلك النقطة ولا يتجاوزونها عملياً قيد أنملة.

البحثُ هنا ليس عما ينبغي أن نكون.. فهذا مبكرٌ علينا، للأسف.. وإنما عما ينبغي أن نفعله كحدٍ أدنى لمجرد أن (نكون)».

contact us
Nabd
App Store Play Store Huawei Store