Logo
صحيفة يومية تصدر عن مؤسسة المدينة للصحافة والنشر
وائل مرزا

دينٌ.. وسياسةٌ.. وثقافة (٥)

A A
خلال الأسبوع الماضي، هاجم شابٌ عنصريٌ أبيض عمره ١٩ عاماً، بالأسلحة النارية معبداً يهودياً بالقرب من مدينة سان دييغو الأمريكية، أسفر عن مقتل امرأةٍ وجرح شخصين.. وقال الشاب أن «مصدر إلهامه» جاء من حادثة الهجوم على المسجدين في نيوزيلندا منذ أقل من شهرين، بل ذكرَ أن تحضيره للهجوم بدأ عملياً في ذلك اليوم وهو يرى مشاهد ما حصل وقتَها!

في مثل هذه الحادثة، يتداخل الدين بالسياسة والثقافة عملياً لإنتاج عملٍ إرهابي يُعتبر امتداداً لعمليات أخرى مشابهة تزداد باضطراد في هذا العالم.. الأمر الذي يوحي، منطقياً، بضرورة العمل، ليس فقط من قِبَلِ رجال القانون والأمن، بل من قِبَلِ المثقفين والكتاب وعلماء الاجتماع والإعلاميين، لإيجاد معادلةٍ جديدة للعلاقة بين الدين والسياسة والثقافة.

يبدو الأمر ملحاً في أمريكا وأوروبا، وغيرها من بقاع العالم.. فإحصاءات وكالة الـ FBI الأمريكية وسِواها من المنظمات غير الحكومية توضح، مثلاً، أن جرائم القتل بسبب العنصرية (البيضاء) زادت في عام ٢٠١٨ بنسبة ٣٥٪ عنها في العام السابق، وأن ٧٣٪ من تلك الجرائم جرت على يد عنصريين بيض بين عامي ٢٠٠٩ و٢٠١٨.. الأمر الذي يجعل هؤلاء يمثلون الغالبية العظمى فيما يتعلق بعمليات الإرهاب الداخلي في الولايات المتحدة!.

رغم هذا، يبدو البحث في جدلية العلاقة المذكورة مصيرياً فيما يتعلق بالمسلمين والعرب، خاصةً في بلادهم، لأسباب واضحة لا تحتاج إلى تفصيل.

لكن هذا لن يكون ممكناً إلا بعد تجاوز المبالغة في تلبُّس الروح الرسالية كما ذكرنا سابقاً، وهو يحتاج، فوق ذلك، إلى إعادة التفكير بهدوء في عناصر تلك الجدلية التي تفرض نفسها باضطراد.. وإعادة التفكير بدورها لن تكون ممكنة إلا في حال استطاع المثقفون المسلمون والعرب، من مختلف المدارس الفكرية والأيديولوجية، تجاوز مواقفهم الصارمة المحدّدة المعروفة تجاه تلك الجدلية.

لنتحدث هنا مثلاً عن العلاقة بين الإسلام، كدين، والحداثة، كمنظومةٍ ثقافية، محاولين فهم الظاهرة.. يساعدنا على ذلك هذا النقل من كتاب شادي حميد المذكور سابقاً حين يقول: «.. والمفارقة أن الحداثة والإسلاموية لم يكونا منفصلين وليسا منفصلين الآن.. في الواقع، من المستحيل تقريباً أن نتصور أحدهما من دون الآخر (في العالمين الإسلامي والعربي). إن فكرة الإسلاموية في حد ذاتها -أن الإسلام والقانون الإسلامي يجب أن يلعبا دوراً مركزياً في الحياة السياسية- كانت لتُقابلُ بنظراتٍ حائرة فارغة في أي وقتٍ قبل القرن التاسع عشر.. لكن مع ظهور الحداثة، أصبح الإسلام، حقاً لأول مرة، مشروعاً سياسياً مستقلاً.. لم يكن عليه أن يصبح كذلك من قبل؛ لأن دور الإسلام في الحياة العامة كان أمراً لا مفرَّ منه -يتسرّب في كل شيءٍ تقريباً- دون جدل، وهذا الأهمّ.. لقد كان مفهوماً بداهةً دون حاجةٍ إلى ذكرهِ، لذلك لم يُذكر.. لم يكن للإسلاموية (الإسلام السياسي) معنىً إلا عند معارضة شيءٍ آخر، وهذا الشيء الآخر كان العلمانية.. فلم يعد الإسلام أسلوبَ وجود.. لم يعد النظامَ الطبيعي للأشياء؛ ولذا كان لابد من تأكيده وإثباته من جديد.. أثناء هذه العملية، أصبح الإسلام عقيدةً سياسيةً تتعلق بالأصالة والمقاومة في وجه التداخل والتسرّب الساحق للعلمانية والاستعمار والتسلّط.. هذه هي إذن قصة كيف تُصبح الأديان أيديولوجيات دينية.. لقد كانت الإسلاموية بطبيعتها مُعارِضة، فإن لم يكن ثمة شيءٍ لتُعارضه، فهل سيكون هناك حقاً حاجةٌ إليها؟ في الوقت الراهن تبدو الحاجةُ إليها واضحةً بما فيه الكفاية».

نفهم أن يكون هذا هو الواقعَ على امتداد القرن الماضي بأكمله مثلاً.. لكن السؤال يطرح نفسه: مع التغييرات الكبيرة التي حصلت في العقود القليلة الماضية فيما يتعلق بمسألتي (الدين) و(الحداثة)، ومعناهُما، في العالم عموماً وفي مجتمعات المسلمين والعرب تحديداً، هل تبقى (علاقة التعارض الوجودي) بينهما قدَراً مقدوراً لا فِكاك من أسْره؟

السؤال أساسيٌ على طريق البحث عن نموذج استيعابٍ مبتكر للعلاقة المذكورة، لابد من التفكير فيه قبل كل شيءٍ آخر.

contact us
Nabd
App Store Play Store Huawei Store