Logo
صحيفة يومية تصدر عن مؤسسة المدينة للصحافة والنشر
وائل مرزا

دينٌ.. وسياسةٌ.. وثقافة (٦)

A A
ثمة أسئلة أخرى هامة لابد من الإجابة عليها على طريق البحث عن نموذجٍ جديد لتنظيم العلاقة بين الدين والثقافة والسياسة، وتحديداً في العالمين العربي والإسلامي.

على سبيل المثال، هل يمكن تجاوز النظر إلى (الديني)، وتحديداً (الإسلامي)، بمنطق (الرفض المبدئي) المبني على مزيج من الشعور بالفوقية الثقافية تجاهه وبالخوف والحذر منه؟ وهل يمكن تجاوز التأكيد على رفض أي علاقة للسياسة بالدين أو للدين بالسياسة؟ كما يفعل البعض.

منذ سنوات طويلة، أشهرَ عزيز العظمة سيف الترهيب بالوقوع فيما أسماهُ عقلية النزعات التوفيقية أو التلفيقية على كلِّ من حاولَ أن يجد لـ (التراث) مكاناً في واقع العرب ومستقبلهم. وحتى ندرك حجم المفارقة، يجب أن نتذكر أن السيف المذكور لم يطل (إسلاميين) بالمعنى المألوف لهذا التوصيف، وإنما مثقفين من أمثال الجابري وزكي نجيب محمود وحسن حنفي وحتى غالي شكري!

هذا نوعٌ من (الطُّغيان الثقافي) الذي تمتدُ معانيه لتشمل محاولات القفز على كل ماله علاقة بأي هوية حضارية إسلامية تاريخية للمجتمعات العربية والإسلامية. والمفارقةُ كبيرةٌ عندما يحصل هذا من قبل مثقفين (تنويريين) ليبراليين وعلمانيين يُفترض بهم أن يكونوا طليعة المجتمع ووعيهُ المتقدﱢم.

ما من شكٍ أن أحداث السنوات الماضية كشفت عوار الفكر الإسلامي التقليدي بأشكاله المتنوعة. وهذا أمرٌ دَخَلنا في تفاصيله كثيراً على هذه الصفحة. لكن من الضرورة بمكان استذكارُ حقيقة أن الإسلاميين، إجمالاً، كانوا فقراء قبلَها في صنعة الثقافة، وأنهم لم يكونوا قادرين على تقديم رموز ثقافية بالمعنى الأصيل للكلمة. من هنا، بقيت ساحة الثقافة حكراً (حلالاً) على من عمل فيها ممن كانوا يوصفون عادةً علمانيين أو ليبراليين.

وهذه الحقيقة، بحد ذاتها، تضع على هؤلاء مسؤوليةً كبيرة.

فلئن كان الزهدُ في استيعاب أي رؤية إسلامية وفي استحضار تأثيرها في المجتمعات العربية والإسلامية ترفاً ممكناً قبل الأحداث المذكورة، إلا أن استمرار تلك الممارسة في واقعها الراهن يعني في أقل الأحوال تجاهلاً مُعيباً للدور الطليعي للمثقف. أسوأ من هذا أن يصبح هاجسُ بعضهم، خاصةً ممن انتقلوا إلى عالم السياسة، معارضةً وموالاة، العملَ بكل طريقةٍ ممكنة لمحاصرة مثل تلك الرؤية وذلك التأثير في أحداث الواقع. من هنا قلنا يوماً: «ليس غريباً إذاً أن نرى كيف يُكرسُ العلمانيون أنفسهم ظاهرة العلمانوفوبيا».

هؤلاء يلتقون مع الإسلاميين «الأكثر تشدداً» كما يقول ياسين الحاج صالح في (الثقافة كسياسة). «الإنسان المسلم في عرف [الفريقين] النقيضين صنفٌ خاصٌ من البشر... إنه هوموإسلاميكس، إنسانٌ آلي مُبرمجٌ على (الإسلام)، أو (الشريعة)»، يقول الكاتب، في تحليلٍ دقيقٍ لموقف هؤلاء. من هنا، يتابع قائلاً بأن هذا «الهوموإسلاميكس، الإنسان المسلم الخاص، هو أيضاً استخلاصٌ نظريٌ مُحتمل من كتابات علمانيين جهاديين، تُعطي الانطباع بأن المسلمين العيانيين هم مسلمون بمعنىً ماهويٍ ثابت... رؤوسهم مليئةٌ بالـ(الإسلام)، شيءٌ قديمٌ ومُظلمٌ وأصولي».

يستحضر الحاج صالح، العلماني، كما يصفُ نفسه شخصياً في الكتاب، بعدها موقف أدونيس وجورج طرابيشي، العلمانيين، من السوريين الباحثين عن الحرية والكرامة بقوله: «الدكتاتورية في (الرأس) قبل أن تكون في (الكرسي)، قال أدونيس في الشهر الأول من ٢٠١٣، بعد أن كان (الرئيسُ المُنتخَب) (على ماوَصفَ بشار الأسد في رسالةٍ مفتوحةٍ إليه في ١٤ حزيران ٢٠١١)، الجالس على (الكرسي)، قد قطعَ نحو خمسين ألف رأس سوري، لم يَذكُرهُم الشاعرُ بشيء... وكان جورج طرابيشي سبقهُ في تشخيص مشكلتنا أيضاً في (الرأس) الذي جعلَ منه صندوقاً، كي يسهُلَ عليه القول إن صندوق الاقتراع لايحلُّ مُشكلة صندوق الرأس، بل إنه لن يؤدي إلى غير (طغيان أكثرية العدد) (كتابهُ «ثقافة الديمقراطية»). وليس هناك أيُّ لَبس في أن المقصود بالرأس أو صندوقهِ هو شيءٌ ما خاصٌ بالإسلام، قد يُسمّى أصوليةً أو قدامةً أو ثقافةً واحديّة، لكنه الإسلام أساساً، والسُّنيُّ تحديداً».

أما العلاقة بين السياسة والثقافة، (والدين)، في هذه الأمثلة فيراها الحاج صالح في ختام تحليله حين يقول: «ظاهرٌ، على أي حال، أننا لسنا هنا في مجال الثقافة والمعرفة المتجردة. الرجلان سياسيان جداً..».

بالمقابل، يستخلصُ الكاتب: «(الإنسان المسلم) [الهوموإسلاميكس] غير موجود. إنه مُتخيلٌ لفاشيةٍ مُشتهاةٍ مرّةً [لدى الجهاديين الإسلاميين]، وإيديولوجيةٌ تبريريةٌ لفاشيةٍ قائمة مرةً أخرى [لدى الجهاديين العلمانيين]... (الرأس) أيضاً غير موجود، و(صندوق الرأس) غير موجودٍ كذلك. ماهو موجود هو بشرٌ عاديون، لهم رؤوسٌ فرديةٌ مُختلفة، ومتغيرة المحتوى مع الزمن... ما يغيبُ عن صنفيّ الجهاديين، الإسلاميين منهم والعلمانيين، هو فقط كل شيء. عالمُ الممارسات الاجتماعية، عالم الرؤوس الكثيرة المتغيرة، عالمُ حياة ملايين الناس وأشواقهم وقيودهم وبؤسهم وأميتهم وجهلهم وإنسانيتهم..».

بعيداً عن الغرق في التنظير، أيُّ نتيجةٍ عمليةٍ تترتبُ على نقل مثل هذا التحليل عن مثقفٍ علماني؟ هذا موضوع الجزء القادم من المقال.

contact us
Nabd
App Store Play Store Huawei Store