Logo
صحيفة يومية تصدر عن مؤسسة المدينة للصحافة والنشر
عاصم حمدان

الإنسان.. غازي مدني

رؤية فكرية

A A
سوف يجد الباحثون جوانب كثيرة في شخصية الإنسان غازي مدني -رحمه الله- ليتحدثوا عنها؛ منها ما هو اجتماعي، ومنها ما هو اقتصادي، ومنها ما هو إداري، ومنها ما هو أدبي..

وفي هذا المقام، سوف أركّز على الجانب الإنساني، وما يرتبط من استقامة في السلوك في شخصية هذا الرائد، الذي أزعم أنني اقتربت منه لمدة تقارب الثلاثين عامًا؛ إخاءً وصداقة ومودّة خالصة من شبه الرياء والحاجة، فهو مثلاً، إذا ما دعي لأكثر من مناسبة في وقت متزامن قدّم دعوة الشخصيّة البسيطة والأقلّ كلفة اجتماعية من مثيلاتها على التي تعلوها في الطبقة الاجتماعية، متمثلًا بالأثر النّبويِّ الشّريف «ما عُبد الله بأفضل من جبر الخاطر»، وأخذًا بالحديث القدسي الشّريف: «أنا عند المنكسرة قلوبهم من أجلي». وفي مناسبات متعدّدة يسعى -رحمه الله- للاستجابة لأكثر من دعوة، من باب جبر الخاطر، الذي تحدثت عنه آنفًا.

وفي سياق آخر؛ رأيته في أكثر من مناسبة وحدث يخرج من وراء الكرسي الذي يقتعده كعميد للكلية أو وكيلًا للجامعة أو مديرها فيما بعد، أو رئيس مجلس إدارة صحيفة المدينة على مدى عقد كامل من الزمن.. نعم؛ يخرج بنفس راضية ومطمئنة لينحني أمام رجل طاعن في السنّ جاء لمراجعة وضع ابن أو ابنة له، ويتسلّم الأوراق التي بين يدي صاحب الحاجة، ويؤكّد له أنه سوف يتابع الموضوع بنفسه، ثم يتصل به لاحقًا، وهو يفعل ذلك -كما ذكرت- بنفس مطمئنة وراضية. وكان لا يقدّم أحدًا من أقاربه في أيّ مطلب على من سواه من الأقران والمجايلين؛ بل كان لا يؤثر -رحمه الله- أن ينحاز لمن له بهم صلة قرابة ورحم.. وأتذكّر؛ في هذا السياق الإنساني أنه طلب -رحمه الله- أثناء حقبة عمله مديرًا للجامعة أن أعدّ قائمة بأسماء بعض هيئة التدريس ليتولوا التنسيق بين إدارة الجامعة والمؤسسات الصحافية والإعلامية في سبيل إقامة علاقات إنسانية مميزة تخدم كل الأفراد، وكان من بين الأسماء اسم شخص يلوذ بقرابة شديدة منه، وكان كفؤًا للقيام بالعمل الذي سوف يُسند إليه، فلما اطّلع على القائمة، وضع إصبعه على ذلك الاسم وطلب منّي أن استبدله باسم آخر، حرصًا منه على دفع الشبهة أو الشك بأنّ اختياره جاء لعامل النّسب أو القربى، وحاولت أن أشرح لمعاليه أنّه ليس هناك من داعٍ لإزاحة الاسم أو استبداله؛ ولكنه أصرّ على موقفه.

ولعلّي لا أكون مبالغًا إذا ما ذكرت أنه عند تخرّج ابنه عبيد من المرحلة الثانوية، ورغب في الانضمام إلى الجامعة، كانت تنقص الابن عبيد بضع درجات حتى يتمكّن من دخول الجامعة، فرفض أن يتوسّط في أمر مثل هذا، وأقنع ابنه بالذهاب -على نفقته الخاصة- ليدرس في الولايات المتحدّة الأمريكية.

والأمر الآخر الذي استشهد به في هذا السياق، في وقت تتزاحم فيه الشواهد أمامي، وأتساءل بيني وبين نفسي: أيٌّ منها سوف أختار وأقدّم.. فهذا الشاهد الأخير يتّصل بحدث عند وفاة أمّ أبنائه، وابنة عمه؛ حيث واريناها الثرى في بقيع الغرقد في المدينة المنوّرة، فلمّا انتهينا من دفنها، وجاء وقت أداء العزاء، كان هناك صف من عامة الناس يتلقون العزاء في ميت لهم، فجنح بعض أفراد عائلة مدني واتخذوا لهم صفًّا آخر للعزاء، فأشار إليَّ غازي، وحدّثني بهمس قائلًا: ما الفرق بيننا وبين هؤلاء القوم، ليكن صف العزاء واحدًا، بحيث يقوم الناس بتعزيتهم بداية، ثم يقومون بتعزيتنا.. فبلّغت الرسالة.. وكان له ما أراد.. منصاعين لأمر كبيرهم، وما أعظمه من كبير عقل ومقام وسليم نفس وطوية.. ألا رحمك الله يا أبا عبيد رحمة الأبرار؛ ولا أجدني الآن في استمطار هذه الذكرى إلا متمثلًا بالبيت الشعري القائل:

كُنتَ السَوادَ لِناظِري

فَعَمي عَلَيكَ الناظِرُ

مَن شاءَ بَعدَكَ فَليَمُتْ

فَعَلَيكَ كُنتُ أُحاذِرُ

contact us
Nabd
App Store Play Store Huawei Store