Logo
صحيفة يومية تصدر عن مؤسسة المدينة للصحافة والنشر
وائل مرزا

دينٌ.. وسياسةٌ.. وثقافة (٧)

A A
بعيداً عن الغَرق في التنظير، أيُّ نتيجةٍ عمليةٍ تترتبُ على نقل مثل هذا التحليل عن مثقفٍ علماني؟ تساءلنا نهايةَ الجزء السابق من المقال، بعد نقل تحليلٍ نقديٍ جذريٍ وحساس لموقف من أَسماهم ياسين الحاج صالح «الجهاديين العلمانيين»، من «الإسلام».

لا يمكن التعامل مع مثل هذه القضية الشائكة بالتنظير فقط. فبعيداً عن التواصل والتعارف والحوار الكثيف، بل واللقاء الشخصي، يمكن للموضوع بأسره أن يضيع في صفحات الكتب والجرائد كترفٍ فكري نُخبويٍ مُجرّد، لا أكثر ولا أقل. نركز هنا بالتحديد على المثقفين والأكاديميين، وحتى (الوسطيين) من النشطاء والعاملين في الحقل السياسي.

المصيبة أن الغالبية في كل فريق من الطرفين الأساسيين المُشار إليهما، الإسلاميين من جهة، والعلمانيين والليبراليين من جهةٍ أخرى، لا يبدون حتى في وارد قراءة ما يكتبه الطرف الآخر، بشمولٍ ودقة. فضلاً عن اللقاء والحوار المباشر.

أذكر في هذا المقام تجربةً شخصية عشتُها منذ قرابة ثلاثة عشر عاماً. في ذلك الزمن، كانت تربطني في نفس الوقت في القاهرة، علاقةُ صداقة، بخلفيةٍ بحثية، مع الدكتور سعد الدين إبراهيم من جهة، ومع مركز أبحاثٍ تابعٍ لجامعة القاهرة، كانت خلفية أعضائه الأكاديميين إسلامية. لفتَ نظري أن تعاوني مع الطرفين كان يدخل في مواضيع الحرية والتعددية والحوار والتنمية وحق الجميع في الوجود والتعبير، لكن المفارقة أن أحدهما لم يكن يعرف الآخر، إلا بالانطباعات العامة المتداولة في فضاء الإعلام، والنميمة الثقافية. يومَها، قدمتُ للدكتور إبراهيم تقريراً ضخماً عن التنمية، عمل عليه الفريق الأول، وشاركتُ فيه ببحثٍ علمي.

تصفح الرجل الكتاب الضخم بعناية مؤكداً أن فيه «جهداً واضحاً» وأن مجموعة من كُتّابه هم من أصحاب التوجه الإسلامي، ثم أبدى سروره من وجود كُتّاب من بعض التوجهات الأخرى. لكنه، بعد دقائق أخرى من التصفح، أبدى لي بلكنةٍ مصريةٍ محبّبة تَعجُّبهُ الحقيقي من مفارقة حضوري إلى القاهرة من بلدٍ آخر لأكون سبب اطّلاعه على نشاطٍ في نفس مجال اهتمامه يجري على مرمى حجرٍ من مكان عمله!

بعدها، كتبتُ تفاصيل الموضوع على هذه الصفحة بعنوان «الحوارُ المقطوع بين دعاة الحوار»!

بعدَها بسنوات، نظّم مركز أبحاثٍ آخر ندوةً مُغلقةً في إحدى العواصم على مدى يومين بين أشهر الشخصيات العلمانية والإسلامية المتواجدة خارج سوريا.. كنتُ من حضور اللقاء الذي طلب فيه المنظمون أن يبدأ بمصارحةٍ مفتوحةٍ لكل طرف تتعلق بمخاوفه وهواجسه من الطرف الآخر. كانت الطروحات في غاية الصراحة والوضوح، وكانت مخيفة. بعدها، تم الانتقال إلى محاولة إيجاد نقاط التقاء وتقاطع. المُعبّرُ جداً في الموضوع أن غالبية هؤلاء لم يلتقوا شخصياً قبل ذلك، وأن التوتر كان يشوبُ بدايات اللقاء، لكنه خفّ تدريجياً مع نهاية اليوم الأول، ليكون اليوم الثاني أقرب لندوةٍ ثقافية عادية! بطبيعة الحال، لم يحلَّ المشاركون إشكالية خلافاتهم في الرأي كلياً، لكن اللقاء كان يمكن له أن يصبح أرضيةً قويةً لذلك لو استمر مثل هذا النشاط.

لنعُد إلى النقل عن ياسين الحاج صالح بعد انتقاده، الوارد في الجزء السابق من المقال، لكلٍ من أدونيس وجورج طرابيشي، ونقرأ هذا الكلام الحساس: «لماذا نهتمُّ بالمُفِكّرين (الرأسيين) مثل الإسلاميين الجهاديين، والأخيرون موجةٌ صاعدةٌ وخطيرة؟ لسببٍ شخصي قبل كل شيء. فكاتبُ هذه السطور من بيئة (الرأسيين) الفكرية والاجتماعية، ومن عالَم حساسيتهما الدنيوية ولُغته ورموزه، وهو أقربُ إلى إحداثيات هذا العالم من أي إسلاميين. لكنني أجدُ أن الواجب الشخصي والعام يقتضي القول أنني لا أُشاركُ هذا الضربَ من الدعاة شيئاً من مقدماتهم الفكرية، وما تُبطنهُ من مُسلّمات، وما تحملهُ من انحيازات اجتماعية وسياسية. الأمر ببساطة أنني علماني، لكني لستُ شريكاً لمن أفقدوا العلمانية كرامتَها الفكرية والسياسية والأخلاقية... وعلى المستوى السياسي الرجلان من دُعاة (الاستبداد المُستنير)... لم يُدافعا يوماً عن ضحايا الطُغيان القائم، ولا قالا كلمةً عن الفظاعة التي عُوملَ بها الإسلاميون طوال العقدين الأخيرين من القرن العشرين في سورية. ولا كلمةً أيضاً عن ما يُقارب الفظاعة التي عُوملَ بها علمانيون. وماهو أهمُّ من المعرفي والسياسي هو خلوُّ فكر الرجلين معاً من أي شاغلٍ أخلاقي. فيه كثيرٌ من (العقل) وقليلٌ من الضمير، كثيرٌ من (الحداثة) وقليلٌ من العدالة، كثيرٌ من (العلمانية) وقليلٌ من الحرية السياسية والدينية، كثيرٌ من (التنوير) وقليلٌ من الاستنارة الداخلية وانشراح الصدر. نُميزُ بين تيارٍ علماني جمهوريٍ وتحرُّري، لايفصل (العقل) عن (الشعب)، ولايستخدم (العقل) و(الحداثة) هراواتٍ ضد الجمهور، وينحازُ إلى العامة ويكافحُ معهم من أجل الحرية والمساواة والأخوة، وبين تيارٍ علمانيٍ تسلطيٍ وفاشي، جعلَ من احتقار الناس والتعالي عليهم عنصراً أساسياً في تكوينه وهويته».

إذا كانت لدى الإسلاميين مشكلةٌ حتى مع هذه (العلمانية) التي يتحدث عنها الحاج صالح، وإذا لم يكن مثل هذا الطرح دافعاً قوياً ومشروعاً للحوار واللقاء والتنسيق مع أصحابه، نظرياً وعملياً، فالأرجح أن الأمل يُصبحُ ضعيفاً في إنتاج نموذجٍ مبتكرٍ وجديد للعلاقة بين الدين والسياسة والثقافة. عندها، سيبقى، في تقديري، الخطاب الإسلامي التقليدي، ومعه الفكر المُنبثق عنه، والممارسة المترتبة عليه، سبباً رئيساً في المشكلة، بدل أن يصبح جزءاً من الحل.

contact us
Nabd
App Store Play Store Huawei Store