Logo
صحيفة يومية تصدر عن مؤسسة المدينة للصحافة والنشر
عاصم حمدان

مدرسة العلوم الشرعية.. ومائة عام من الإنجاز المعرفي

رؤية فكرية

A A
عندما دخلت باب بهو مدرسة العلوم الشرعية، التي كانت تقع في الجهة الشرقية من المسجد النبوي الشريف، أحسست أن هناك فارقًا كبيرًا بين كُتّاب متواضع؛ مثل كتّاب الشيخ الحلبي، رحمه الله، وهذا الصرح العلمي الكبير..

وكما أدت مدارس الفلاح في مكة المكرمة دورًا علميًا مقدّرًا، قبل أن تنشأ مؤسسات رسمية فيما بعد، فلقد كان دور مدرسة العلوم الشرعية أيضًا لا يقلّ تأثيرًا عن دور مدرسة الفلاح، فلقد كان هناك تبادل علمي ومعرفي بين هاتين المدرستين، وبين حلقات العلم في المسجدين الشريفين، حيث درّس عدد من أهل العلم والفقه في هاتين المدرستين، وكان طلاب العلم يتلقون دروسهم في تلك المدارس صباحًا، ويطلبون مزيدًا من العلم في حلقات المشايخ المعروفة في المسجدين الشريفين، والتي كانت تمثّل فكرًا وسطيًا يقرّ بحقّ الاختلاف في الرؤى والأفكار والعلوم المنبثقة من مدارس الفقه المختلفة، مثل الحنفية والمالكية والشافعية والحنبلية.

ولابد لي أن أعرّج على ما استقرّ في الذهن عن المدرسة، التي أفخر بالانتساب إليها إلى اليوم؛ وهي مدرسة العلوم الشرعية، فلقد كان يدرِّسنا فيها عدد من القامات الشامخة في شتى العلوم، مثل المشايخ: رجب أبوهلال، والسيد عمر عينوسة، والأستاذ أحمد عثمان، وأستاذ الأجيال أخوه الأكبر عبدالرحمن عثمان، والد الشاعر الراحل أسامة عبدالرحمن وإخوته، والغريب أن هذه الشخصية الأسطورية والموسوعية -أعني الأستاذ عبدالرحمن عثمان- كانت قادرة على تدريسنا العلوم الأدبية والعلوم التطبيقية؛ بل تجاوز ذلك إلى إعطائنا معلومات عن اللغة الإنجليزية، كما كان أستاذنا بكر آدم، رحمه الله، يقوم بتدريسنا مادة المحفوظات، التي تحتوي على عيون من الشعر العربي، وكان مراقب المدرسة، الأستاذ سليمان سمّان، ذا سطوة كبيرة، حيث يمسك بعصاه ليشاهد طوابير الطلاب وهي تلج من باب المدرسة، وتصعد إلى الدور الثاني والمطلّ على الحرم النبوي الشريف. كما كانت شخصيات أخرى من بلاد عربية تدرس في هذه المدرسة؛ مثل الأستاذ: حمزة حوحو، شقيق كاتب القصّة أحمد رضا حوحو، وهذا الأخير نزح إلى بلاد الجزائر وقتل في ثورة المليون شهيد. كما كانت الدروس الدينية توكل مهمة تدريسها لشخصيات تعرف مقاصد الشرع الحنيف، وتتأدب مع الرؤى الأخرى، والتي ربما كانت مغايرة أو مختلفة؛ فالاختلاف في نظر المحققين هو في الفروع وليس في الأصول، ولا مشاحة في رفع الصوت بذلك.

إن مما ميّز مدرسة العلوم الشرعية احتواءها على شعبة خاصة بتعلّم القرآن وتجويده وحفظه، على القراءات المختلفة، ويقوم بذلك أستاذة ومشايخ بارعون في هذا الفن والميدان، مثل الشيخ عبدالله البخاري، ومن قبله كان الشيخ زكائي، الذي كان من أوائل من رفع الصوت باللغة العربية بعد أن أصدر كمال أتاتورك وزمرته الأمر برفع الأذان باللغة التركية بدلاً من العربية في بلاد الترك، فما كان من الشيخ زكائي إلا أن تسلل من بلاده إلى بلاد الحرمين الشريفين، لينعم فيها بالجوار المبارك، ويصدح بصوته الريان في فضاء المدينة المنورة، متبتلاً بصوته ومكتسبًا شرف النداء بالأذان من فوق منائر المسجد النبوي الشريف.

ولعلّ ممّا وقر في الذاكرة من تلك الأيام الطيبة، جلوسنا للدرس في المواد الدينية على يد شيخنا السيد عمران الحسيني، الذي كان من أهل الجوار الكريم.. كما أذكر تلك المكتبة التي كانت تقوم في جانب من بناء المدرسة، وتحتوي على أمّهات الكتب في العلوم النقلية والعقلية، وكان القيّم عليها شخصية دينية معتدلة؛ ألا وهو الشيخ إنعام، رحمه الله.

لقد دفع حافز المحبّة والوله بديار الحبيب؛ صلّى الله عليه وسلّم، وآثاره ومرابعه المباركة، دفع السيد أحمد الفيض أبادي بإنشاء هذه المدرسة في العام 1340هـ، وعندما توحّدت الجزيرة العربية على يد المغفور له، الملك عبدالعزيز بن عبدالرحمن، واصل الأبادي التعاون مع الجهات الرسمية والعلمية لتبقى المدرسة، كمثيلاتها الأخرى، منبرًا من منابر العلم والمعرفة، ولقد شاءت الأقدار أن ينتقل السيد أبادي إلى رحمة الله ويدفن في ربوة البقيع، حيث آل سيدنا رسول الله، صلّى الله عليه وسلّم، وصحابته الأكرمون، رضي الله عنهم أجمعين. وحمل الراية من بعده ابن أخيه السيد حبيب محمود أحمد، والذي شغل منصب مدير المدرسة لعدة عقود من الزمن، أعطى المدرسة فيها من وقته وجهده الشيء الكثير، والذي يجب أن نشير إليه في هذا المقام. ولعل هناك رسالة أدفع بها إلى أبناء والدنا السيد حبيب، رحمه الله رحمة الأبرار، بأن يقوموا بتنظيم احتفالية بمناسبة مرور مائة عام على هذا الصرح العلمي الباذخ، الذي تخرّج فيه عدد كبير، ليس فقط من أبناء البلدة الطاهرة؛ بل من البلدان العربية الأخرى، فقد اقترن اسم مدرسة العلوم الشرعية بكل المعاني المشرقة والمضيئة، وما أجدرنا اليوم أن نعيد هذه الذكرى، فنحن أمة الوفاء والعطاء وحفظ المعروف والإحسان.

contact us
Nabd
App Store Play Store Huawei Store