Logo
صحيفة يومية تصدر عن مؤسسة المدينة للصحافة والنشر
وائل مرزا

دينٌ.. وسياسةٌ.. وثقافة (٨)

A A
تَحدثنا في هذه السلسلة من المقالات عن الإشكالات الجذرية لغالبية الإسلاميين فيما يتعلق بعلاقتهم مع الثقافة والسياسة. وضربنا مثلاً عن إشكاليات ذات علاقة بالموضوع لدى شرائح من العلمانيين.

لكن السؤال يبقى: ماهو جوهر تلك الإشكاليات؟

يفيدنا هنا ماذكره المثقف السعودي تركي الحمد منذ سنوات حين قال، وهذه المرة عن الليبرالية: «.. بوضوحٍ أكبر، يمكن القول أن الليبرالية هي أيديولوجيا واعية بذاتها الأيديولوجية، وهنا تكمن قوتها من حيث وعي القائلين بها أن كل شيء ممكن. وبإيجاز العبارة، فإن الليبرالية في النهاية هي تحرير الأيديولوجيا من الأيديولوجيا، وهذا ليس تلاعباً بالألفاظ بقدر ماهو تقرير حالةٍ تاريخية معينة بأقل قدرٍ من الإسهاب. نقطة الضعف الرئيسية في الأيديولوجيا الليبرالية لا تكمن في نسقها المفتوح، ولا في أفكارها الفلسفية، بقدر ما تكمن في المعبرين عنها، دولاً أو أفراداً أو جماعات، حين يمنحون مفاهيمها معاني مطلقة وفق ظروفهم ومحيطهم هم دون غيرهم، وبذلك يُغلقون ماهو مفتوحٌ أصلاً، ويزعزعون فكرة التعددية والتسامح والتعايش التي لا ليبرالية دونها. بمثل هذا الفعل، تتحول الليبرالية إلى أيديولوجيا بنصٍ مُغلق، مثلها مثل غيرها من أيديولوجيات، ويغيب الوعي عن معتنقيها من أنهم يُمارسون فعلاً أيديولوجياً في النهاية مهما بلغ عمق الإيمان بالمقولات المطروحة، وبذلك تحكم على نفسها بالفناء في النهاية».

ثمة مشكلةٌ إذاً. وهي مشكلة لا تنحصر في فريقٍ دون غيره. كل هذا ونحن لا نزال نتحدث عن محاولة إيجاد نموذجٍ جديد مبتكر للعلاقة بين الدين والسياسة والثقافة، يتجاوز الفصل المستحيل بينها أولاً، ويدرك الأهمية القصوى العملية لوجود مثل ذلك النموذج في حاضر العرب والمسلمين ومستقبلهم، ويعمل، أخيراً، على بلورة ذلك النموذج.

ذكرنا في هذه الصفحة سابقاً تعريفاً للثقافة طرحه المستشرق النمساوي غوستان فون غرونبوم يقول إن: «الثقافة هي الجهد المبذول لتقديم مجموعةٍ متماسكة من الإجابات على المآزق المحيرة التي تواجه المجتمعات البشرية في مجري حياتها، أي هي المواجهة المتكررة مع تلك القضايا الجذرية والأساسية التي تتم الإجابة عنها عبر مجموعة من الرموز، فتشكل بذلك مركباً كلياً متكامل المعنى، متماسك الوجود، قابلاً للحياة».‬‬‬‬‬‬‬‬‬

بكل الجدية الممكنة في موضوعٍ كهذا، يمكن بسهولة اعتبارهُ، للأسف، مجرد قضيةٍ نظرية تندرج تحت باب الترف الفكري، نسأل: هل يوجد الآن لدى الإسلاميين والعلمانيين والليبراليين وغيرهم، في مجتمعات العرب والمسلمين، من يمكن له أن يقدم «مجموعةً متماسكة من الإجابات على المآزق المحيرة التي تواجه» هذه المجتمعات في مجرى حياتها الراهنة؟ هل ثمة أيُّ درجةٍ من الجدية، لدى أولئك الأفرقاء، في العمل على «المواجهة المتكررة مع تلك القضايا الجذرية والأساسية التي تتم الإجابة عنها عبر مجموعة من الرموز، فتشكل بذلك مركباً كلياً متكامل المعنى، متماسك الوجود، قابلاً للحياة»؟

خاصةً وأن في التعريف المذكور ربطاً ضمنياً مُحكَماً للعلاقة بين الدين، بمعنىً من المعاني، وبين السياسة والثقافة.

مرةً أخرى، هذا ليس موضوعاً للترف الفكري. إنه تعبيرٌ عن واقعٍ بائس، تتحمل مسؤوليته الاتجاهات المذكورة أعلاه قبل أي فريقٍ آخر. وهي إذ تكتفي بالحياة منغلقةً على ذاتها ومونولوجها الداخلي في جزرها المنعزلة، وبالمجادلات النظرية فيما بينها، في أحسن الأحوال، فإن كل ما تفعله هو أنها تستقيل عملياً من الدور المنوط بها.

من المغري طبعاً الهروب من تلك المسؤولية وإلقاء اللوم على السياسة وأهلها. لكن هذا ليس إلا تعبيراً آخر عن الاهتراء الشامل المستشري في الواقع العربي والإسلامي الراهن. فضلاً عن فضحهِ لحقيقة افتقاد من يُمارس ذلك الهروب عن امتلاك الحد الأدنى لدور المثقف أولاً، ولآليات صناعة واقع المجتمعات أصلاً. وفي مقدمتها، لكيفية تأثير ذلك الدور في تشكيل الواقع المذكور، رغم كل الظروف السياسية.

كم هو مُشينٌ هذا الحال لكل من يحمل صفة المثقف؟ وكم هو شقيٌ هذا الواقع العربي والإسلامي بوجود هؤلاء؟ وكم هو زائفٌ أن يتصدروا المنابر، بألقابهم ومُسمياتهم وصِفاتهم الفاخرة، بل وأن يتسنّموا، أحياناً، المناصب ومواقع المسؤولية؟ وكم هو مُخزٍ أن يكون هذا الوضعُ استثناءً عربياً وإسلامياً آخر عما يجري في هذا العالم؟

مامن شكٍ أن (حفنةً) من المثقفين العرب والمسلمين يحاولون القيام بدورهم المنوط في هذا المجال. وهي إذ تحاول القيام بما هو ممكنٌ بقدراتها المتواضعة، فإن إنتاجها الحقيقي يبدو، كما هو الحال في كل سياقٍ آخر، بانتظار جيلٍ جديد سيولد لابُدّ من احتقاناتٍ راهنة تؤكد قوانينُ الاجتماع البشري نتائجها الحتمية.

contact us
Nabd
App Store Play Store Huawei Store