Logo
صحيفة يومية تصدر عن مؤسسة المدينة للصحافة والنشر
وائل مرزا

دينٌ.. وسياسةٌ.. وثقافة (٩)

A A
تحدثنا سابقاً عن إشكالية (غير الإسلاميين) مع الثقافة بمداخل مختلفة. لكن السؤال عن علاقة الإسلاميين بالثقافة كان ولايزال يفرض نفسه بشكلٍ مؤثر. خاصةً حين يعتقد البعض أنه ليس هناك دورٌ للثقافة في جوهر ذلك الفهم، وأن الثقافة، بتعريفها ومضمونها العالمي الراهن، شيءٌ يتناقضُ مع الإسلام، في قليلٍ أو كثير، هذا إن لم تكن في عداوةٍ معه. والأخطر أنهم يعتقدون أن ذلك الخصام مع الثقافة لم ولن يؤثر في تعاملهم مع العالم بهويتهم الإسلام، وليس له علاقةٌ بإنتاج هذا الواقع الراهن الرديء للمسلمين بجميع المقاييس.

لماذا تلك القطيعة الكبرى، التي تكاد تكون شاملةً أحياناً، مع الثقافة، لدى غالبية الإسلاميين؟

تذكر المعاجم أن الثقافة في اللغة العربية هي أساساً الحَذقُ والتمكُّن، وثَقَفَ الرمح أي قوَّمَهُ وسوﱠاه. ويُستعار بها للبشر فيكون الشخص مهذباً ومتعلماً ومتمكناً من العلوم والفنون والآداب. ويُقال ثَقِفَ الشيء إذا أدركه وحذقه ومهر فيه، والثقيف هو الفطين، وثقف الكلام فهمه بسرعة. فكلما زاد نشاط الفرد ومطالعته واكتسابه الخبرة في الحياة زاد معدل الوعي الثقافي لديه، وأصبح عنصراً بناءً في المجتمع.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬

فهل تكمن المشكلة في كون الفنون، مثلاً، جزءاً من الثقافة؟ نعرف كيف أصبحت كلمة (الفن) في العقود الماضية، مع تصاعد المد الإسلامي، أقرب إلى كلمةٍ تُعبّرُ عن كل ماهو بذيء وفاسدٌ ومُفسدٌ ومذموم. لابد هنا من التأكيد بأن ثمة (ابتذالاً) واسعاً اقترن بمفهوم (الفن) في كثير ٍ من المجالات خلال الفترة المذكورة. لكن هذا يجب أن يكون بعيداً عن التعميم الكامل، حيث كان ولايزال يوجد في العالمين العربي والإسلامي ألوانٌ من الفن الراقي بمعناه الذي يتضمن قيم الجمال والإبداع والسمو الذي يرفع الإنسان شعورياً وعملياً نحو مقاربة إنسانيته الحقيقية.

لا ننسى هنا أيضاً كيف ساد تاريخياً ذلك الجزء من المدونة الفقهية الذي يرى في كثيرٍ من الفنون حراماً، كالموسيقى على سبيل المثال. وكيف تضاعفت الطامةُ حين اشتعل التنافس في التحريم خلال العقود الأخيرة، كدليلٍ على الالتزام، إلى أن تمت شيطنة الرسم والنحت والمسرح والسينما والغناء وغيرها من الفنون.

فكانت النتيجة أن يُترك جزءٌ واسعٌ من ساحتها فعلاً لأدعياء الفن الزائفين من جانب، وأن تموت معها في أرواح غالبية المسلمين تلك المشاعر المرتبطة بالجمال والإبداع والسمو، وتُقتلَ معها طاقاتٌ كان يمكن أن تُطلق تلك المشاعر من جانبٍ آخر.

ثمة مفارقةٌ عمليةٌ عاصرها كاتبُ هذه الكلمات صغيراً دون أن يُدرك دلالاتها الحقيقية في ذلك العُمر المُبكر. ففي خضم مُعايشة بعض شرائح الإسلاميين في دمشق السبعينيات المتأخرة، لفَتَت الانتباه ظاهرةُ اختفاءٍ متكرر وواضحٍ في أوساط تلك الشرائح لبعض (الشباب) الذين تميزوا تدريجياً بكونهم أكثر تنوراً وعقلانيةً وانفتاحاً وموضوعيةً و(ثقافة)! المفارقة أن الواقع أثبت دائماً أن هؤلاء لم ينقلبوا على انتمائهم الإسلامي! وإنما اتضح لديهم ببساطة أن الإسلام أرحبُ بكثير من تلك الدائرة التي حاصرهم فيها كِبارُهم، وأن دخولهم في عالم الثقافة وسَّعها لديهم حتى باتوا يعيشون إسلاماً أكثر رحابةً وجمالاً و(إنسانية).

في نفس الإطار، تَعدّدت كثيراً، يومَها، القصص الواقعية عن حالاتٍ كان فيها أفرادٌ يُقصَونَ نهائياً من علاقاتهم مع أصدقائهم من شرائح الإسلاميين، فقط لأنهم كانوا يحاولون، دون أن يدروا، تمثُّل التعريفات الواردة أعلاه للثقافة. وهكذا، كانت (مشكلتهم) تتلخصُ في خروجهم على القوانين الصارمة السائدة، وإن لم تكن مكتوبة، في بعض التكوينات والمنظومات، ومُخالفتُهم لتقاليدها وأعرافها. كان هذا على صعيد مجالات قراءاتهم (غير الإسلامية حصراً)، أو اهتماماتهم (بهوايات وشؤون غير إسلامية حصراً)، أو صداقاتهم (لأفراد ليسوا إسلاميين حصراً)، وبالتأكيد في مجال سلوكهم وهندامهم (الذي لم يكن يُعتبر إسلامياً!). وأعرف شخصياً مَن هو ممتنٌ لهذا اليوم على «الحرمان» الذي طالَهُ، ليس فقط لأنه كان يقرأ كتباً «غير إسلامية»، ويُصادِق شباباً مِن غير الإسلاميين، ويسمع الموسيقى، بل ويُصفِّفُ شعره، ويبردُ أظافره بعد قصِّها! نرجو هنا ألا يأتينا من ينسى مجمل التحليل أعلاه، ويدّعي أننا حصرنا معنى الثقافة في الأمرين الأخيرين..

ما أعرفه تماماً أن شرائح مُقدّرة من الإسلاميين لاتزال تعيش إلى اليوم هذا الواقع بتفاصيله! والمفارقة أن يستغربُ البعض استمرار ظواهر الغلو والتشدد من جهة في واقع المسلمين، وديمومة الفوضى النفسية والفكرية والعملية العارمة في فهم الدين وتنزيله على واقع الحياة، حتى لدى من يعتبرون أنفسهم (معتدلين).

contact us
Nabd
App Store Play Store Huawei Store