Logo
صحيفة يومية تصدر عن مؤسسة المدينة للصحافة والنشر
وائل مرزا

دينٌ.. وسياسةٌ.. وثقافة (١٠)

A A
هل يمكن تجاوز النظر إلى السياسة كهاجسٍ لابد من احتكار كل مؤسساته لضمان ما يُسمَّى «حراسة الدين وسياسة الدنيا»، كما يعتقد بعض الإسلاميين العاملين في حقل السياسة؟، أو من خلال الأحكام والتصورات الطهورية والمثالية لدى البعض الثاني؟ أو من مدخل البراغماتية الشاملة لدى البعض الآخر؟

هل يمكن التعامل مع (الدين)، من قبل المُثقفين والسياسيين، ومع (الثقافة) من قِبَل الإسلاميين والسياسيين، بعيداً عن منطق التوظيف والتخويف؟

يبدو البحثُ عن إجابات للأسئلة المذكورة أساسياً على طريق أي محاولة لتقديم ما أسميناهُ نموذج (استيعاب) و(استجابة) جديد للعلاقة الجدلية بين الدين والسياسة والثقافة. وذكَرنا أن هدف تلك المحاولة هو مجردُ تمكين العرب، والمسلمين، من التعامل مع قضاياهم بحدٍ أدنى من العقلانية والواقعية والمنهجية. فقط. لا أكثر ولا أقل.

في كتابه المُشار إليه سابقاً (الثقافة كسياسة)، يُعبّرُ ياسين الحاج صالح، بطريقةٍ مستفزةٍ في عفويتها، عن الواقع العربي المخنوق بالفوضى على مختلف المستويات، حين يقول في خاتمة فصله (الغيلان الثلاثة وأزمة الثقافة العربية): «عشنا طويلاً في عالمٍ بلا أشكال، فلم يعد لنا شكل، ولم نعد نُميز. انقلبنا غيلان، لامِثل لنا. ولا تَنضبطُ أشكالُنا بمفاهيم وصور محددة. ليس السياسيون منا سياسيين، ولا المثقفون مثقفين، ولا الدينيون دينيين، ولا الحداثيون حداثيين، ولاشيء هوَ هوَ. كلُّ شيءٍ سائلٌ ومُنحلّ. هُيولى وفوضى».

هكذا، وبسبب افتقادنا للقدرة على تحرير المفاهيم التي تحكم صيرورة واقعنا، وتحرير العلاقة بين مكونات هذا الواقع، وتحديد الأدوار التي يصنعُ أصحابُها تفاصيلَهُ الصغيرة والكبيرة، يبدو وكأن الواقع العربي، والإسلامي، بات محاصراً بين ثلاثة أغوال: غول الدين وغول السياسة وغول الثقافة. والأرجح أنه ليس ثمة مبالغةٌ إذا قُلنا إن الحصار، ذاك، ليس سيئاً، وسيئاً جداً فقط، وإنما يُمثل خطراً وجودياً يُحيق بذلك الواقع.

لهذا، قُلنا سابقاً، ونكرر، أن هذا ليس مجالَ طرح مثاليات طوباوية. ليس مجالَ البحث عن «مساهمة حضارية» منتظرة، ولا عن «دورٍ تاريخي» مطلوب، كما يتمنى ويردد الرساليون من كل انتماء، دون أن يشعروا أنهم يراوحون عند تلك النقطة ولا يتجاوزونها عملياً قيد أنملة.

البحث هنا ليس عما ينبغي أو نستطيعُ أن نكون. وإنما عما ينبغي أن نفعله كحدٍ أدنى لمجرد أن (نكون).

وهذا لا يتمُّ إلا بإعادة التفكير في عناصر تلك الجدلية التي تفرض نفسها باضطراد. وإعادة التفكير لن تكون ممكنة إلا في حال استطاع المثقفون العرب، والمسلمون، من مختلف المدارس الفكرية والأيديولوجية، تجاوز مواقفهم الصارمة المحدّدة المعروفة تجاه تلك الجدلية.

إذ لا يبدو ثمة إمكانية في الواقع العربي والإسلامي الراهن بعد الآن للتعامل مع السياسة بمنطق المُطلقات أو من خلال التصورات والأحكام الطهورية، كما يريد البعض.

ولا إمكانيةَ للنظر إلى (الديني) بمنطق (الرفض المبدئي والكامل) المبني على مزيج من الشعور بالفوقية الثقافية تجاهه وبالخوف والحذر منه، كما يفعل البعض الآخر.

ولا إمكانيةَ للتعامل مع (الدين) و(الثقافة) بمنطق التوظيف والتخويف. ولا للقفز على دورهما بعقلية التحايل والتأجيل، ومن خلال الحلول السريعة قصيرة النظر وقليلة الحسابات.

لا إمكانية للتعامل مع جدلية الديني والسياسي والثقافي من مثل تلك المنطلقات بعد اليوم.

واضحٌ إذاً أننا بحاجة إلى الكثير من المرونة، والكثير من الموضوعية، والكثير من التجرد، والكثير من الحوار. ربما كانت هذه الشروط صعبة. لكنها ليست مستحيلة. فهل يوجد في شرائح المثقفين العرب والمسلمين من يمكن أن يعمل لمثل هذا المشروع؟

نعرف أنه يصعبُ على كثيرٍ من هؤلاء، من مختلف الانتماءات، التزحزحُ عن مواقعهم الفكرية (هل نقول الأيديولوجية الجهادية؟) لسببٍ أو لآخر! لكن الأمر لايتطلب ذلك النوع من إجماعِ كل من له علاقةٌ بالموضوع. فالمسألةُ أولاً وقبل كل شيء (موقفٌ) ثقافي لايمكن إلا أن نترك للتاريخ الحكمَ عليه. وربما يكفي أن توجد بعض الشرائح المستعدة لتحريك الراكد لكي ينطلق القطار. عندها، يصبح الآخرون أمام الخيار المعروف بين القفز إليه في آخر لحظة، أو الحياة بعد مغادرته، في قاعات الانتظار.

contact us
Nabd
App Store Play Store Huawei Store