Logo
صحيفة يومية تصدر عن مؤسسة المدينة للصحافة والنشر
وائل مرزا

لمن تكتُب؟ للقارئ المجهول (٣)

A A
تتساقط (المُحرَّمات) في الواقع العربي والإسلامي واحدةً تلو أخرى. يَحزن البعض، ويَفرح آخرون، ويختار البعض الثالث موقف الإنكار المحايد. لكن المحرمات تظل تتساقط كأوراق الشجر في خريفٍ شديد الرياح.

هذا (واقعٌ) عمليٌ صلدٌ لابدَّ أن تتذكّرهُ، باستمرار، شريحةٌ واسعة من العرب والمسلمين.

ماذا نفعل للتعامل مع الواقع المذكور؟ نطرح السؤال لكيلا يخرج علينا من يقول إن المقصود من الكلام هو القبول بالواقع والاستسلام له.. ثمة مقدماتٌ ثلاث لا مفرَّ منها، كبدايةٍ منطقية (تتسق حتى مع الفهم «الشرعي» الأصيل..): أولاً، الاعترافُ بهذا الواقع بكل وضوحٍ وشفافية، لأن الاعتراف المذكور يشحذُ الهمم لإيجاد الحلول، في حين أن الإنكار يقتل محاولة التعامل مع الظاهرة من اللحظة الأولى.

ثانياً. الاعتراف الواعي، المبني على التجربة التاريخية والمعاصرة، وعلى دراسة الوقائع والظواهر ذات العلاقة، بأن أساليب المَنع والإغلاق والمراقبة والمُلاحقة والاتهام والتخويف لم تعُد تنفع في التعامل مع الموضوع من قريبٍ أو بعيد.

ثالثاً. إعادة تعريف ماهية (المُحرّمات) و(المُقدّسات) بشكلٍ منهجي يَصدقُ مع الفهم الدقيق للقرآن، وينسجم، في الوقت نفسه، مع الممارسات العمليّة المُبكّرة، بعد تنزيله. وقبل تراكم جبالٍ من الجهد البشري البحت، الذي يحتمل الخطأ والصواب، والتي أصبحت فيما بعد المدونةَ التراثية التي تحكم واقع المسلمين بتفاصيلها الهائلة، رغم تناقض كثيرٍ من مكوناتها مع ذلك الفهم وتلك الممارسات المبكرة.

لا يزال حديثنا هنا عن ملابسات الحوار مع (القارئ المجهول). لكننا نحاول الاستفادة من مضمونه بتوسيع آفاق أفكاره وعناصره. وسنربط الأفكار ببعضها منهجياً لمحاولة الإحاطة بالصورة الكاملة، قدر الإمكان طبعاً.

فبعد رسالة القارئ في آخر الجزء السابق من المقال، والذي تحدث فيه عن شعوره، لأول مرةٍ منذ زمن، بإمكانية الوقوف على أرضٍ صلبة، رددتُ عليه قائلاً: «أهمُّ شيءٍ قلتَهُ في رأيي هو الوقوف على أرض صلبة.. حتى أن هذا أهمُّ الآن من (العودة للدين).. فالدين وسيلةٌ وليس غاية.. وبكل صدق، فإن كتاب عبد الجواد ياسين معي، في حِلِّي وترحالي، لأنني أعتقد تماماً، وقد قرأتُ الكثير.. أنه أهم وأعمق وأشملُ كتاب يمكن أن يؤديَ كما ذكرتَ لاستمرار وتقوية الوقوف على أرضٍ صلبة.. وأنتظرُ، بلهفة، أن يصلني كتابه الجديد (اللاهوت)، بعد أيام، لأنه على نفس الطريق، ولكن بعد تفكيرٍ ونُضجٍ لأكثَرَ من عشر سنوات بعد كتاب (الدين والتدين)».

يجدرُ التأكيدُ هنا أن الحديث عن «الوقوف على أرضٍ صلبة» أمرٌ في غاية الحساسية لكل من يسير في طريق إعادة البحث عن (إسلامه).. فهؤلاء مُستنفِرون هنا وهناك بحثاً عن إجابات شافية على أسئلةٍ لديهم. ومع كثرة الطروحات (الجديدة) المتنوعة، وأحياناً المتناقضة، تزيد درجة التشويش لديهم تبعاً لذلك.

وهذا يؤدي لمزيدٍ من الخيبة والتعب الفكري والنفسي. بل وأحياناً، للزُّهد الكامل في المسألة، ومغادرة طريق البحث المضني بأكمله، نهائياً..

هذه عمليةُ بحثٍ (عن الحقيقة) تَحدث عند كثيرين بالمقلوب.. وهي تساهم في توسيع دوائر المشكلة بين شرائح العرب والمسلمين. وأعتقد أن أحداً لا يتحدث عنها، فيما التنبيه إليها مطلوبٌ بإلحاح.

بالمقابل، وقبل الاستعجال في البحث عن إجابات، نهائيةٍ وكاملة كما يرغب البعض، لا مفرَّ من فهم كيفية وصول واقع (الإسلام) و(المسلمين) كِليهُما إلى الوضع الراهن، والتفريق مقصودٌ بين المصطلحين. والذي لا يستطيع إدراكَ التفاعلات التاريخية الثقافية والاجتماعية والفكرية والديمغرافية والسياسية التي بدأت تتأثر بـ (النص) منذ لحظة نزوله، وتؤثرُ به، وبطريقة فَهمهِ، ثم التعبير عنه، لن يكون قادراً على وضع (الإجابات) في نصابها أبداً. وكما يقول عبد الجواد ياسين، فإن: «.. الفهم الناجمَ عن مُلامسةِ النص ينبصمُ ببصمةِ الذات مرتين، الأولى عند إدراكه (تلقِّيهِ داخل الذات) ولدى التعبير عنه (تعديتِهِ خارج الذات).. هذا الدورُ الإيجابيُّ للذات لايعني -خلافاً لما يُفهمُ عادةً من كانط- إنكارَ وجود الشيء في ذاته..».

من هنا، كانت رسالة القارئ المجهول/الصديق الأخيرة معبرةً حين قال مجيباً على رسالتي أعلاه: «صحيح.. الوقوف على أرض صلبة مهمٌ جداً.. الإحساس بعدم التوازن في الحياة يُفقد القدرة على التقدم.. جميلٌ أن تقرأ وتسمع لشخصٍ قد اكتملت عنده الصورة. العديد من الباحثين الذين كنت أقرأ لهم كانوا يُثيرون أسئلةً جديدة عندي بدل الإجابة على الأسئلة القديمة».

انتقل الحوار بعد ذلك إلى مناطق أكثر شمولاً وتوسعاً، بل فتحَ آفاقاً للتعاون والتنسيق. وكانت بداية هذا الخير كله إصرارَ المرء على الكتابة باستمرار، على مقولة (اللهم بلِّغ)، ثم تراكمَ أفكار الكتابات إلى درجةٍ دفعت القارئ المجهول/الصديق على (المبادرة) بالتواصل.

تبقى ضرورة التفصيل في النقاط الثلاثة أعلاه، وسنجد طريقةً للحوار فيها تحت عنوان هذا المقال وفاءً لوعد الاقتصار على ثلاثة أجزاء، أو تحت عنوانٍ آخر.

contact us
Nabd
App Store Play Store Huawei Store