Logo
صحيفة يومية تصدر عن مؤسسة المدينة للصحافة والنشر
وائل مرزا

أيُّ «ثوابت»؟ وأيُّ «مُقدَّسات»؟ (١)

A A
عندما يغيب تحرير المصطلحات من ناحية، وتختفي الرؤية المقاصدية من ناحية ثانية، يَنتُجُ من الفوضى الفكرية والعملية أكثر مما ينتج من الفهم الموضوعي لأي مسألةً يجري البحثُ فيها. هذا أمرٌ بات يتكرر عند الحديث عن جملة مسائل حساسة أصبحت اليوم مجالاً للحوار في الساحة الثقافية العربية والإسلامية. من هنا، كان لابد عند الحديث عن الموضوع تحريرُ مجموعة أمور، ينبغي أن تُفتح فيها الحوارات المنهجية من قبل أهل الاختصاص والعلم، ويأتي طرحُها هنا على شكل إشارات سريعة يفهمها أولو الألباب، ويسمحُ بها الحيّزُ المتوفر في هذا المقام.

أولاً، وقبل كل شيء، لا مفرَّ من تحرير وتحديد طبيعة وماهيّة (المقدسات) و(الثوابت) التي يتحدث البعض عن «عدم احترامها».. والتي يبدو أن دوائرها تتسعُ وتكبر بشكلٍ خارجٍ عن كل سيطرةٍ منطقية، إلى درجةٍ تمَّ فيها تقزيمُ الإسلام كلّه، بحيث صارت تُهدِّدهُ بالخطر كلماتٌ في رواية، أو عباراتٌ في مقالة، أو صفحاتٌ في كتاب، أو مقاطعُ في أغنية!

وكذلك أصبحت آراء بعض العلماء وفتاويهم، سواء كانوا معاصرين أو قدماء، ضمن دائرة المقدسات تلك. لا يجوز مناقشتها والحوار فيها، فضلاً عن تفنيدها والرد عليها وإظهار عيوبها ومثالبها. وصار كل حديثٍ في ذلك، عند البعض، تعرضاً للعلماء وإساءةً لهم، وانتقاصاً، بالتالي، من الدين وثوابته.

ففي ثقافةٍ تؤثر السلامة والكسل الذهني، وتحتفي بالمنع وسيلةً للحفاظ على القيم، وفي ثقافةٍ اختلطت فيها مقاصد الشرع بأفهام البشر والعادات والتقاليد، وفي ثقافةٍ شكّلت جزءاً كبيراً منها، على مدى التاريخ، مصالحُ أفراد أقوياء سياسياً واقتصادياً واجتماعياً، توسّعت دائرة ما توصف على أنها (محرّمات)، وتكاثرت أنواع ما يُقال بأنها (مقدّسات) و(ثوابت).

وكانت أول خطوة، وأسهل خطوة، وأقوى خطوة: توسيع دائرة المحرمات في كل مجال من تلك المجالات. ومع توسيع دائرة المحرمات، تتضخم بشكل سرطاني أنواع المقدسات والثوابت. ويتضاعف بشكلٍ مضطرد عدد القضايا والأفكار والمقامات التي لا يمكن مسُّها أو النقاش فيها أو مجرد الإشارة إليها.

والغريب أن كثيراً ممن يتصدون لمثل هذه المعارك يغفلون أو يتغافلون عن حقيقة في غاية الأهمية، يمكن أن تحسم كثيراً من الجدل، حتى في قضايا أكبر من بعض المسائل التي يجري تسليط الأضواء عليها. ففي مسألة مثل التعرض إلى الذات الإلهية وإنكار وجودها ابتداءً، نجد أن القرآن الكريم أوردَ وحفظ ما يصعب حصره من دعاوى غير المسلمين وآرائهم ومقولاتهم واتهاماتهم، أياً كانوا وأياً كانت في هذا الباب، من فرعون إلى أهل قريش، مروراً بالرافضين للدين والتدين ووجود إله، من سائر الملل والجماعات البشرية والأقوام على مر التاريخ. بل إن القرآن تجاوز هذا، كما يذكر الدكتور المقرئ الإدريسي وهو المتخصص في الدراسات الألسنية، إلى إضفاء مسحته الجمالية البلاغية على تلك الاتهامات والآراء، وأن يضمنَ لها، فوقَ ذلك، الخلود إلى يوم الدين، من خلال إيرادها وذكرها في ثنايا سوره العديدة.

وفي الواقع العملي، نجد أن المسلمين لم يُصابوا، غالباً، بذلك التشنج والرعب والفزع الذي يصيب البعض اليوم من مجرد ذكر هذه القضايا، ويسري هذا بالدرجة نفسها على كل ما هو دون ذلك من المسائل والقضايا التي تتعلق بالرسول المصطفى، وبتعاليم الإسلام بشكل عام.

والشاهد أن الفوضى الفكرية التي تُغلِّفُ حياتنا المعاصرة باتت تسمح لكل من هبّ ودبّ بتحديد ما هي تلك المقدسات والثوابت التي يجب احترامها، ولا يجوز أن تطولها حرية التعبير. بعيداً عن الرؤية المؤسساتية التخصصية التي يجب أن تضع هذه القضايا في نصابها الصحيح.

contact us
Nabd
App Store Play Store Huawei Store