Logo
صحيفة يومية تصدر عن مؤسسة المدينة للصحافة والنشر
عاصم حمدان

بوريس جونسون.. وخلفياته الأيديولوجية

رؤية فكرية

A A
لم يعرف في تاريخ مسيرة الأحزاب البريطانية أنه كان من ضمن برنامجها الانتخابي التعبير عن أي هوية أيديولوجية؛ وخصوصًا ما عرف عن الإنجليز من رويّة واتزان حول القضايا العالمية وخصوصًا فيما يتعلّق بمنطقة الشرق الأوسط؛ لذا جاء تصرح بوريس جونسون، وزير الخارجية السابق، والمرشح الحالي لخلافة تيريزا ماي، صادمًا، وعلى غير النهج البريطاني المعروف في التعامل مع القضايا السياسية وسواها، كما ذكرنا، حيث صرّح من غير داعٍ ولا مسوغ أو سبب معقول بأنه صهيوني حتى النخاع، ولذا فإننا سنبحث عن بعض الخلفيات التي كانت وراء هذا التصريح الصادم، وهذا يقودنا بداية إلى التذكير بأن جذور جونسون العرقية تتضمن عرقًا شرقيًا من جهة أمه، وربّما أراد أن يتقرّب إلى اللوبي الصهيوني في بريطانيا.

وإذا عدنا إلى الوراء قليلاً فلقد كان رئيس الوزراء الراحل هارولد ويلسون [1964 -1970م]، متعاطفًا مع الحركة الصهيونية؛ إلا أنه كان حذرًا في تصريحاته إزاء القضية الفلسطينية، كما يذكر في مذكراته بأنه اجتمع مع الملك الشهيد فيصل بن عبدالعزيز -رحمه الله-، في دواننغ استريت، عند بداية أحداث حرب 1967م التي دارت بين العرب وإسرائيل، ويضيف ويلسون بأن الملك فيصل قال له، بكل صراحة: لن تجدني إلا واقفًا مع الرئيس جمال عبدالناصر على الرغم من الخلاف الذي بيننا، وإنني أقف معه في خندق واحد. ويحسب لويلسون -رغم ميوله للصهيونية- أنه عيّن مندوبًا معروفًا في عالم السياسة، وهو هيو فووت، المعروف بلقب اللورد كاردون. ولعل معرفة كاردون هذا بالقضايا المتصلة بالصراع العربي الإسرائيلي، حيث سبق وأن عمل محافظًا لـ»بيت لحم» في حقبة الانتداب البريطاني، كل هذا كان وراء إصدار بريطانيا في مجلس الأمن بعد انتهاء الحرب القرار الشهير 242 والذي يتحدث بوضوح عن حقوق الشعب الفلسطيني في إقامة كيانه المستقل. وعلى الرغم مما قيل عن بعض النواقص، أو الهنات في ذلك القرار؛ إلا أنه ظل إلى وقت قريب الأساس في كل القرارات اللاحقة حول القضية الفلسطينية، وحقوق الشعب الفلسطيني.

وإذا ما وصلنا إلى حقبة رئيسة الوزراء مارغريت تاتشر [1979 - 1990م]، والتي خلفت هارولد ويلسون وحكومته العمّالية، فلقد كانت تاتشر معجبة بالشخصيات اليهودية، ولهذا عيّنت في حكومتها الأولى عددًا من الوزراء ذوي الجذور اليهودية، وفي مقدمتهم معلمها الروحي كيث جوزيف، إلا أنها تستدرك قائلة في مذكراتها بأنها لم تقع في الفخّ الأيديولوجي الذي يجعل العهد القديم -أي التوراة- الأساس الذي تنطلق منه السياسات والأفكار والرؤى لأتباع الديانة، وفي الوقت نفسه تستبعد هذه التيارات الصهيونية ما يُسمّى بـ»العهد الجديد»؛ أي الإنجيل، وذلك يدلّ على أن الزعيمة المحافظة تاتشر لم تشر إلى الأفكار الصهيونية ونأت بنفسها وحكمتها عن الدخول في هذا المأزق، ولم تفكّر في الصوت اليهودي الناخب.

ربما جاء تصريح جونسون في الفترة الفاصلة بين استقالة ماي وترشيح جونسون أو هانت، وهو يسعى بذلك -أي جونسون- إلى كسب الصوت اليهودي في حزب المحافظين، أو ربما يستعمله كذخيرة إذا ما اضطر البرلمان -بسبب قضية البريكست- إلى الدعوة إلى إجراء انتخابات مبكّرة، وهذا الأمر يجعل سلوكيات جونسون موسومة بالانتهازية، ولكنها انتهازية فجّة، مفضوحة النوايا، كما أن خبرته السياسية محدودة، فهو لم يستمر في منصب وزارة الخارجية إلا ما يقرب من عام ونصف. وأوردت قناة الـ(بي بي سي BBC ) لأحد المتخصصين في الشأن البريطاني بأن جونسون لا يهتم بالتفاصيل، ولهذا يهرب أحيانًا من لقاء الصحفيين والإعلاميين، تجنبًا لأسئلتهم المحرجة.

إن من حق جونسون أن يعتنق ما شاء من الأفكار والأيديولوجيات والمذاهب، مثل الصهيونية وسواها؛ ولكن من غير المقبول أن يسخّر أو يجيّر هذا الانتماء العقدي أو الأيديولوجي في صراعه السياسي، وتنافسه من أجل كسب ود الناخبين وأصواتهم المرجحة في الانتخابات نحو مقعد رئاسة الوزراء، فإن مثل هذا الصنيع ينسف إرثًا متراكمًا من النهج البريطاني السياسي المتوازن، والذي وسم الصورة الإجمالية لها في مشهد السياسة العالمية.

contact us
Nabd
App Store Play Store Huawei Store