Logo
صحيفة يومية تصدر عن مؤسسة المدينة للصحافة والنشر
وائل مرزا

أيُّ (ثوابت)؟ وأيُّ (مُقدَّسات)؟ (٢)

A A
كيف نتعامل مع ما يُسمّى ثوابت ومقدّسات أصلاً؟، وبغض النظر حتى عن الاتفاق على ماهيّتها. يكمن التساؤل هنا، تحديداً، في جدوى ممارسة أسلوب المنع والمصادرة، ورؤية ما إذا كان هذا الأسلوب يؤدي فعلاً إلى تحقيق المقصد منها، خاصة إذا انطلقنا من رؤية شموليةٍ لهذه المسائل ترفضُ منهج التبسيط والاختزال.

فأغلب الظن أن الهدف (العملي) لهذا النوع من ردود الأفعال: (التشهير والمنع والمصادرة والتكفير..) يتمثل في (الردع) بشكلٍ من الأشكال (لكيلا يهون أمر الدين ودوره في الحياة).

لكن السؤال الذي يتبادر إلى الذهن، ومن خلال قراءة أكثر عمقاً للدين وللواقع هو التالي: هل يؤدي هذا الأسلوب حقاً إلى صيانة دور الدين؟ وما دور الدين ابتداءً؟ أليس هو حماية كرامة الإنسان وتأكيد معاني الحق والعدل والحرية والمساواة والجَمال؟ أليس هو محاربة الجهل والفقر والمرض والظلم والاستغلال والفساد؟

وبالتالي، ألا يمكن أن تكون الممارسات التي تقتصر على ملاحقة كاتبٍ هنا لكلمات كتبها، والتشهير بمطربٍ هناك من أجل عباراتٍ قالها، مجرد إبر تخدير للنفس وللآخرين، بل ولإقناع النفس والآخرين، أيضاً، بأن البعض (يؤدي المهمة) من خلال اختيار هذه المواقع السهلة والأهداف السهلة.. بل ويتضاعف شعور ذلك البعض بالرضا من خلال الضجيج والصخب الإعلامي الذي يرافق هذه الأحداث..

وكأن تلك الكلمات التي كُتبت أو قيلت هي السبب وراء غياب كل معاني وقيم الكرامة والحق والعدل والحرية والمساواة من حياة الناس. وكأن التشهير بهؤلاء (الأشرار) وملاحقتهم هي الكفيلة بأن ترفع عنهم واقع الذل والتخلف والجهل والفقر والمرض والتبعية!! وهو واقعٌ يمثل أقصى صور الاستهزاء والتحقير الحقيقي لكل المقدّسات الأصيلة في الإسلام.

والمُراد أن عملية الردع المقصودة لا تُحقِّقُ في مثل هذه القضايا هدفها المتمثل في صيانة الدين وحفظ دوره في الحياة، لأنها تُمَارَسُ في مجالات هي في غاية الجزئية والفرعية، بينما يتم التعتيم على كثير من المجالات والمواقع التي هي أصلُ البلاء الاجتماعي والثقافي والاقتصادي والسياسي في واقع العرب والمسلمين.

في هذا الإطار، يُصبح مطلوباً أيضاً تحريرُ كيفية التعامل مع من نعتقد أنه يمسّ المقدسات.. خاصة حين يكون هذا المسّ بالرأي والكلام.. تحريراً شرعياً مقاصدياً ومنطقياً علمياً، بعيداً عن الاستعجال والاختزال المنبثق من حرارة العواطف، لا من قواعد الشرع والعقل والمنطق.

فنحن نعرف على سبيل المثال أن النصيحة، وأحيانًا كثيرة (النصيحة بالسر)، أصبحت شعاراً يُرفع في كثير من المواقع، بدعوى أنها تمثلُ المنهج الأكثر اعتدالاً وموضوعية وواقعية للتعامل مع بعض مظاهر الأزمات الكبرى في حياة الأمة. وهي مظاهر عملية وفي كثير من الأحيان مؤسساتية صيغت لها القوانين والتشريعات. ويمتد تأثيرها العميق في الواقع بشكل يؤثر في الدين ودوره أكثر بكثير مما تفعله بعض الكلمات هنا وهناك.

أفلا يمكن قياسًا إذًا ـ والحالُ ذاك ـ أن تكون النصيحة، ويكون الحوار والنقاش والجدال بالتي هي أحسن، نصيبَ من يُعتَقدُ أنه يمسّ المقدسات نظرياً بكلامه وقصصه وأغانيه! أم أن الأمر يتعلق، مرةً أخرى، باختيار المواقع الأسهل لادّعاء القيام بمهمة (حماية الإسلام)؟

واستباقاً لمن ينطلق في قراءته من منهج المتقابلات والأضداد، ينبغي التأكيد بأن هذا الكلام لا يحمل دعوةً إلى الحرية الفوضوية الكاملة، وهي حريةٌ لا وجود لها في أي بقعةٍ من العالم.. وإنما هي دعوةٌ لبناء منهجيةٍ تُحررُ المصطلحات، وتُحددُ الأولويات، وتضع نصب عينها مقاصد الدين الأصيلة. حتى إذا ما تم ذلك التحرير والتحديد صار ممكناً التعاملُ بموضوعية وتوازن مع القضايا الجزئية، التي يجري إيهام الأمة اليوم بأنها كُليَّاتُ الدين وثوابتهُ، بشكلٍ يضع الأمور في نصابها الصحيح.

وإلى أن يأتي يومٌ تصبح فيه أولويتنا متمثلةً في صيانة قيمنا ومبادئنا (الإنسانية) على أنها (المقدساتُ) الحقيقية التي يجب أن يكون حفظُها مناط جهد الإنسان وجهاده، فسنظل نحارب من أجل القشور والمظاهر، ونغفل عن الأهداف والمقاصد الحقيقية التي تمثل جوهر الإسلام.

contact us
Nabd
App Store Play Store Huawei Store