Logo
صحيفة يومية تصدر عن مؤسسة المدينة للصحافة والنشر
عاصم حمدان

سفر برلك.. خروج من الشفاهية إلى تدوين «الساعد»

رؤية فكرية

A A
لم تكن عبارة «سفر برلك» وما تحمله من دلالات حزينة في تاريخ البلدة الطاهرة؛ المدينة المنوّرة، غريبة على مسمع الأجيال المتوالية في مدينة الحبيب صلّى الله عليه وسلّم. وكانت الروايات كامنة في صدور القوم؛ بمعنى أن الجانب الشفهي تغلّب على الجانب التدويني والتحريري.

وإذا كنا اليوم نريد أن نعرض لكتاب «سفر برلك.. قرن على الجريمة العثمانية في المدينة المنوّرة» للباحث والإعلامي المعروف الأستاذ محمّد الساعد، فإننا لن نغفل أيضًا ما كتبه بعض الإخوة الزملاء مثل الأستاذ المربّي أحمد أمين مرشد، في الجزء الخامس من كتابه المعروف «طيبة وذكريات الأحبّة»، وكذلك ما كتبه الدكتور سعيد طولة في كتاب علميٍّ في هذا الشأن.

أريد العودة إلى القول بأنه إلى ما يقرب من عقدين أو ثلاثة عقود من الزمن، كان يعيش بيننا كُتّاب وأدباء ومؤرخون عاينوا أو عايشوا فترة هذا الشتات، الذي كان وراء نزوح سكّان المدينة المنوّرة إلى بلاد نائية، مثل الشام وتركيا، وقليل منهم اختار مدينة ينبع، أو البلد الحرام؛ مكّة المكرمة، ليقضي فيها مدّة من الزمن، حتى تنجلي تلك الغمّة عن أهل الجوار الكريم، ولعلّ من الأسماء المعروفة التي زامنت أو عاصرت تلك المأساة؛ أذكر منهم الأساتذة: عبيد مدني، وأمين مدني، وعزيز ضياء، ومحمّد حسين زيدان، وعلي حسين عامر، وجعفر إبراهيم فقيه، والسيد علي حافظ، والشريف إبراهيم العياشي، والأستاذ الراوية عبدالستّار بخاري، والشيخ خضر فارسي؛ وسواهم..

وهنا يلحّ السؤال: لماذا كان الحديث عن هذه الواقعة السيئة همسًا وليس جهرًا؟

ولعلي أتذكّر شيئًا ممّا ردده والدي - رحمه الله - على مسمعي؛ حيث قال: إننا بحكم النشأة في حي العنبرية، مدخل المدينة المنوّرة المعروف، من جهة مسجد الميقات، وقرية عروة، وآبار علي، قد شهدنا أن أكثر أهل المدينة المنوّرة قد رُحّلوا بقوة القهر والإجبار، وأن عائلتنا، التي كانت تسكن في حيّ السيح، غير بعيد عن باب العنبرية، قد كان حظها أن تطلب مكّة المكرمة كمحطة بديلة لها».. ويضيف والدي أن إحدى نساء العائلة؛ وهي والدة الشيخ المعروف في الحقبة السابقة، أحمد نور، تحدثت مع فخري باشا باللغة التركية التي كانت تجيدها، راجية أو طالبة بأن يعطيهم الإذن بالسفر على مكّة المكرمة عن طريق ينبع ورابغ، ثم إلى البلد الحرام، وأنه كان من رجالات المدينة المنوّرة البعض ممن حظي بالنزوح إلى البلد الحرام؛ مثل الشيخ حسين عامر، والد الأديب والكاتب المعروف السيد علي حسين عامر.. وأضاف أنهم حلّوا في مكّة المكرمة في حيّ الشعبة المعروف، وأن عائلة «ابن ظافر» المعروفة وسواها قد أكرمت أهل الجوار الكريم. ونقل لي الوالد -رحمه الله- صورًا عن الحالة التي عاشها سكّان المدينة المنوّرة آنذاك، والتي كانت بدايتها 1334هـ الموافق 1915م، واستمرت ربما لمدّة تقارب العام أو العامين، وفي هذه الحقبة قام القائد العسكري في المدينة المنوّرة آنذاك فخري باشا، بإيصال سكّة حديد الحجاز بدءًا من باب العنبرية وانتهاء بآخر شارع العينية، وفي سبيل هذا المطلب هدم الأسواق المعروفة آنذاك حتى يتمكن القطار، الذي كان يحمل -للأسف الشديد- السلاح والذخيرة ليتم تخزينها في المسجد النبويّ الشّريف.

ومشهد آخر ذكره لي -رحمه الله- لم أجده عند الآخرين؛ وهو أن النساء من فتيات أهل المدينة المنوّرة كن يحملن على رؤوسهن أكوامًا من تراب الأسواق المهدومة، وهو أمر لم يعتده أهل الجوار من قبل، ممّا يعطي انطباعًا صادقًا عن حجم تلك الكارثة المعروفة بـ»سفر برلك».. كما أكد لي أن من تجرّأ في نهاية هذه المأساة علي فخري باشا هم بعض من جنوده، الذين أوثقوه وهو نائم، حفاظًا على حرمة المسجد النبويّ الشّريف، حيث مثوى سيدنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وصاحبيه عليهما رضوان الله ورحمته.

وأضيف، أن كثيرًا من أهل المدينة فضّل البقاء في البلاد التي رُحّل إليها، أضرب مثالاً على ذلك بالشيخ والمؤذن المعروف، صاحب الصوت الجهوري إبراهيم السمّان، وكذلك بعض من مؤذي المسجد الطّاهر مثل حسن عفّان، وبقيت إلى اليوم أسر مدينية في كل من تركيا والشام، وربما لفظاعة ما شاهدوه آنذاك فضّلوا البقاء حيث توقف بهم الركب، أما البعض الآخر فلقد عاد بعد أن استتب الأمن في الجزيرة العربية، التي حظيت بتوحيدها على يد المغفور له الملك عبدالعزيز -رحمه الله-.

إن كتاب الزميل الساعد، والذي كان باعثًا قويًا على كتابتي هذه المقالة، يمثل إضافة حقيقة في التوثيق التاريخي لتلك الحادثة، فقد اشتمل على العديد من الفصول التي غطّت تفاصيل تلك الجريمة، بلغة أدبية باذخة، هي مما عرف به الكاتب في مساهمته الفكرية والصحفية، وليقيني أن مثل هذه الأسفار المهمة عصية على التلخيص والإيجاز، فإنني أكتفي فقط بالإشارة إلى ضرورة أن يهتم الباحثون والأدباء بمثل هذا العمل ويعكفوا على دراسته بروية، حتى تكتمل الصورة الحقيقة لهذه المأساة.

contact us
Nabd
App Store Play Store Huawei Store