Logo
صحيفة يومية تصدر عن مؤسسة المدينة للصحافة والنشر
وائل مرزا

أيُّ (ثوابت)؟ وأيُّ (مُقدَّسات)؟ (٣)

A A
لا يمكن تفهمُ ضرورة تحرير كل ماهو متعلقٌ بـ(الثوابت) و(المقدسات) و(المُحرّمات) في غياب إدراكٍ عميق لحجم التغير الذي حصلَ في العالم، وتأثّر به العرب والمسلمون، نوعياً وكمياً.

ثمة نقطةٌ حساسةٌ هنا لابدّ من الانتباه إليها. فالظاهرة التي تُسمّى (الصحوة الإسلامية) في العصر الحديث ظَهرت واشتد عودُها في سبعينيات وثمانينيات القرن الميلادي الماضي. والذي يبدو أن ثقافة تلك الصحوة تعايشت تدريجياً مع ظروف وطبيعة ذلك الزمن (البطيء). ومن خلال التفاعل معها، بَنَت ورسّخت في المجتمعات ذات العلاقة فهماً معيناً للإسلام له تقاليده وقواعده وملامحه وأساليب تنزيله الخاصة على الواقع. كنا إذاً، في ذلك الوقت، أمام لحظة ولادةٍ لنوعٍ جديد من (التديُّن) يختلف تماماً عما كان سائداً قبل ذلك، وينسجم، قدر الإمكان، مع الظروف الثقافية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية لتلك الأيام.

لكن العالم تغيرَ بشكلٍ سريعٍ واستثنائي في طبيعته، خلال العقود الثلاثة السابقة، والواضحُ من استقراء الواقع أن (التديُّن) المذكور حاول مواكبَة هذا التغيير، لكن هذا حصلَ بشكلٍ فوضويٍ على جميع المستويات. كان هذا جلياً في العالم العربي أكثرَ من غيره.

فعلى سبيل المثال، كان لدينا، خلال سبعينيات وثمانينيات القرن الميلادي الماضي، في كل دولة قناة تلفزيون (أرضية) يتيمة وإذاعةٌ واحدة. وكان لدينا دائماً، صحيفةٌ واحدة، ولكن بثلاثة أسماء مختلفة.. يُمسك العربي بالصحيفة وينظر إلى الشاشة ويسمع المذياع في نفس الوقت، فيعرف تفاصيل (الخبر). نفسُ الأسماء، ونفسُ الكلمات، ونفسُ الأوصاف، ونفسُ الألقاب، ونفسُ الشعارات، ونفسُ (التهذيب) و(النظام).. كان التهذيب والنظام سائدين في كل شيء: في السياسة، وفي الاجتماع، وفي الفن، وفي الثقافة، وفي الإعلام، وطبعاً في (التديُّن).

حَرسَ العرب حدود الأرض زمناً، وأتقنوا سَنَّ قوانين الضبط والربط في الواقع الحقيقي. ثم انطلقت الأقمار الصناعية إلى السماء، فصارت الحدود وهميّةً، وبقيت القوانين حبراً على ورق أمام الواقع الافتراضي. باغتت التكنولوجيا العرب بشكلٍ غير مسبوق: الرسائل، صارت إلكترونية. الهاتف، أصبح لاسلكياً ونقالاً. النشرُ كان حلماً صعب المنال، فصار حتى الأطفال ينشرون قصصهم في ساحات الانترنت. التوزيع وإيصال الفكرة والمعلومة كان مهمةً دونها تحريكُ الجبال، فأضحت أسهلَ مايمكن أن يقوم به إنسان. وأهمُّ من هذا وذاك. كان البحثُ عن (معلومات) و(إجابات) مثل البحث عن العنقاء، فجاءت (غوغل) وأخواتها وانقلبت المعاناة لتكون من كثرة الإجابات والخيارات والمعلومات.

كانت معركةً خفيةً وغريبةً تلك التي دارت على الأرض العربية في تلك السنوات. حُسمت المعركة في النهاية مع تغيُّر الأعراف العالمية في حقل المعلومات والاتصالات. صار عيباً عدمُ وجود أجهزة كمبيوتر في بلدٍ معين. وأصبح افتقادُ الإنترنت مسبّةً. وغياب شبكةٍ للهاتف الخليوي بات مدعاةً للتهكّم والسخرية. فاستسلم أصحاب الشأن لأمرٍ قد توجَّه.

بمقاييس حياة الشعوب والحضارات، حصل كل شيء بسرعة. لم يكن الواقع العربي، بما فيه من (متدينين)، مهيأً للتعامل مع هذه النقلة، الواسعة بكل الموازين. لم يكن يوجد في ذلك الواقع ما يصلح للتعامل مع النقلة بشكل طبيعي، لا قانونياً ولا ثقافياً ولا اقتصادياً. فقد تمّ بناءُ المنظومة القديمة كلها في اتجاهٍ آخر، وللتعامل مع همومَ مغايرة، ولمعالجة قضايا مختلفة كلياً.

كانت مفارقةً تاريخية كبيرة. ذلك أن عُودَ النظام السياسي العربي الذي اشتدَّ، أيضاً، في السبعينيات تلك، جعلَ الهياكل والأنظمة والقواعد والقوانين والتصورات مصممةً لعالم السبعينيات. وبفعل رؤيةٍ ثقافية ترتاح لاستقرارٍ مجبولٍ بالتقليد والجمود وتفترضه قاعدةً للحياة، كانت القناعةُ سائدةً بأن قواعد ذلك العالم ستبقى كما هي عليه لجيل أو جيلين على الأقل. أما القوى الأخرى في المجتمع، من أقصى اليمين لأقصى اليسار، بما فيها الإسلاميون أصحاب الصحوة وقادة صناعة (التديُّن)، فقد كانت جزءاً من المنظومة الكبيرة، عرفت ذلك أم لم تعرف. كان بعضُها يحسب نفسه مستقلاً، يتموضع خارج الفضاء السياسي أو الثقافي الرسمي. بل إن بعضها الآخر كان يظن أنه ثائرٌ على تلك المنظومة ومضادٌ لها. لكنها كانت جميعاً في النهاية مولودةً من نفس البوتقة الثقافية/التاريخية. حاملةً لإفرازاتها ولملامحها. مصبوغةً بمعطياتها ومسلّماتها. وحُكماً، كانت لا تمتلك سوى أدواتها ولغتها ومفاهيمها ووسائلها، وإن تغيرت النكهات.

جاءت النتيجة طبيعيةً. عمّت الفوضى في كل اتجاه. وشاع الانتقال من النقيض إلى النقيض في كل مجال، وعلى كل مستوى. صار الممنوع مسموحاً، إن لم يكن بحكم القانون والعرف، فبحكم الحال والواقع. وبدأ التغيير. تدريجياً ولكن مؤكداً.

contact us
Nabd
App Store Play Store Huawei Store