Logo
صحيفة يومية تصدر عن مؤسسة المدينة للصحافة والنشر
عاصم حمدان

بابا يعقوب.. وسطر جديد من عناية الدولة بالأدباء

رؤية فكرية

A A
لم تكن الصيحة التي أطلقها الأديب والكاتب المعروف بابا يعقوب عن عزمه بيع مكتبته في سبيل السفر للبحث عن علاج لما يعانيه من آلام، هي الأولى؛ فقد سبقه إلى ذلك عدد من الأدباء والكُتّاب، وفي مقدّمتهم الشاعر الكبير حمزة شحاتة، رحمه الله. ففيما تختزنه الذاكرة إنه عندما توفي أديبنا وشاعرنا شحاتة في عام 1391هـ، كتب صديقه القريب منه الأستاذ محمّد عمر توفيق مرثية صادقة، ومما جاء فيها تلميحًا بأن أديبنا استعاد بعض الكتب التي سبق أن اشتراها منه توفيق. ويعلم الكثيرون أن شحاتة عاش في مصر لتعليم بناته ولم يلتفت إلى شيء آخر من متاع الدنيا الزائل. كما أن الأديب المعروف أبو عبدالرحمن بن عقيل الظاهري عزم على بيع مكتبته التي تحتوي على النوادر من المخطوط والمطبوع، ولكن خادم الحرمين الشريفين، الملك سلمان بن عبدالعزيز، أيده الله، كانت له وقفة إنسانية غير مستغربة حيال محنة الظاهري، وذاك عندما كان أميرًا للرياض. وقد أخبرني بتفاصيل هذا السلوك الحضاري من الملك سلمان أستاذنا الدكتور عبّاس طاشكندي، المتخصّص في علم المكتبات، وكان أحد الذين انخرطوا في معرفة محتويات المكتبة، وتقديمها للجهة المسؤولة عن مثل هذا الصنيع.

وفي السياق نفسه فإن خادم الحرمين الشريفين -يحفظه الله- قام بزيارات عدة للأديب الكبير عبدالمقصود خوجة في داره، وكان لتلك الزيارة وقعها الإيجابي الكبير، لما انطوت عليه من معاني التقدير والوفاء لمن أخلصوا العطاء لدينهم ومليكهم ووطنهم، وأسهموا في مشهدنا الثقافي والأدبي والفكري بعطاء ستذكره صفحات التاريخ الناصعة.

كما أتذكر أن الكاتب والصحفي المعروف عبدالله باهيثم حظي برعاية خاصة من سمو الأمير فيصل بن فهد، رحمه الله، حيث أمر بعلاجه ومتابعة حالته. وللتاريخ أيضًا أذكر أنه بعد تعيين معالي الدكتور عبدالعزيز خوجة وزيرًا للثقافة والإعلام، اتصل بي الابن الدكتور فهد الشريف يطلب منّي أن أتحدث مع الدكتور الخوجة حول الحالة المرضية للشاعر محمّد الثبيتي، وكان أن نقلت ذلك لمعاليه، فقال لي ما نصّه: سوف أسعى بكل ما أملك لنقله إلى جدة، وإذا تعذرت الأمور فسوف أتكفل بعلاجه على نفقتي الخاصة.

وفي موقف إنساني مماثل، في حقبة معالي السيد إياد مدني وزير الثقافة والإعلام الأسبق، كانت له مواقف مشابهة؛ حيث علم بحالة الصحفي القدير والشاعر والأديب عبدالغني قستي، فأوعز لمن يثق بهم بشراء دار خاصة تحتضن الأديب القستي في أخريات حياته، وتكفيه ذل الطلب والسؤال.

وقد عاينت شخصيًا ومن نشأتي في المدينة المنوّرة حالة الأديب والفيلسوف الأستاذ عبدالله سلامة الجهني، فلقد كان ينفق من راتب التقاعد الذي يستحقه، حيث كان يعمل ملحقًا ثقافيًا لبلادنا في لبنان، ينفق ذلك على من يستحقون غير عابئ بأحواله الشخصية، ولا زلت أتذكر تلك العباءة العتيقة التي كان يرتديها في رحلته بين الحرة الغربية وباب جبريل عند المسجد النبوي الشريف. وكذلك الأمر مع الأستاذ والقاص محمّد عالم أفغاني، الذي أصيب في أخريات حياته بشلل؛ فإذا ما رأيته يمشي تشعر بكثير من الحزن على رجل كان ملء السمع والبصر، وكان يتحدث زملاؤه، ومنهم أستاذنا المرحوم الأديب والداعية والمؤرخ محمد حميدة، رحمه الله، عن مواهب أفغاني المتعددة، ولكن الأفغاني اعتزل الحياة وظلّ حبيس داره حتى انتقاله إلى رحمة الله، بل لم يعرف الناس جنازته عند خروجها من المسجد النبوي الشريف لتستقرّ في بقيع الغرقد، وربوة أهل البيت.

وقد حزنت يومًا عندما علمت أن الشاعر الرومانسي المعروف محمود أبوالوفا صاحب الرائعة الشعرية المعروفة «عندما يأتي المساء»، بأنه لم يمشِ في جنازته سوى نفر محدود من عائلته؛ بل لم يتذكره الموسيقار محمّد عبدالوهّاب الذي غنّى تلك القصيدة العصماء.

بابا يعقوب، كتب عشرات الكتب، بل ربما المئات عن أدب الطفل، وعن الأدب عامة، ويتعرّض لكثير من الآلام التي اعترته في هذا السن المتقدم، فلم يملك سوى الإعلان عن بيع أغلى الأشياء عنده وأثمنها؛ وهي مكتبته الخاصة. ومما خفف عن الجميع الحزن على حالة هذا الأديب هو ما نقلته الصحف ووسائل التواصل الاجتماعي من خبر مفاده أن معالي وزير الثقافة، الإنسان سمو الأمير بدر بن عبدالله بن فرحان آل سعود، سوف يقوم -جزاه الله خيرًا- بتحمّل نفقات علاج بابا يعقوب خارج المملكة.. وهذه المواقف تدلّ على الروابط القوية بين الساحة الثقافية والأدبية ومسؤوليها، الحريصين على إزالة الهموم من نفوس الآخرين، وقالوا قديمًا: «لقد أدركته حرفة الأدب»؛ ولكن هنا يتدارك الحكّام والوزراء والمسؤولون مثل هذه الحالات، فأغلى ما يملك الإنسان هي صحته التي ينعم بها الله عليه، وما أحوج الأمة إلى النور المضيء من العقول والقلوب المتفتحة والنفوس الطيبة. والأحاسيس الفياضة.

contact us
Nabd
App Store Play Store Huawei Store