Logo
صحيفة يومية تصدر عن مؤسسة المدينة للصحافة والنشر
وائل مرزا

أيُّ (ثوابت)؟ وأيُّ (مُقدَّسات)؟ (٤)

A A
نعم. نحن بحاجةٍ لإعادة تعريف ماهو (مُقدسٌ) و(مُحرّمٌ) و(ثابتٌ) في الإسلام بشكلٍ دقيق ومنهجي. قد يستنكر كثيرون هذا الأمر ويحاربونه، لكن هذا يمثل جزءاً من المشكلة التي يحاولون، للمفارقة، التعاملَ معها. ينبعُ المأزقُ هنا من التوسيع الهائل الذي طالَ تلك المفاهيم على مدى التاريخ، ثم يبدو وكأنه تضاعفَ في العقود الأخيرة.

لنأخذ مثلاً موضوع (المُقدّسات). فيما أعلمُ أن كلمة (المقدّس) بتصريفاتها المختلفة وردت في القرآن الكريم عشر مرات فقط. وهي، بمُجملها، تتحدث عن (الله القُدُّوس)، و(الروحِ القدُس)، و(الأرض المُقدّسة)، و(الوادِ المُقدَّس)! وإذا استثنينا المثال الأول الذي يستعملُ بتصريفه المذكور حصراً، بحيث لا يُقال (الله المُقدّس)، تبدو الأمثلة الأخرى ذات خصوصيةٍ واضحة.

هذا فضلاً عن إجماعٍ كبير على عدم ورود كلمة (المقدس) لا في الحديث النبوي ولا في أدبيات الإسلام ولغة رجالاته ومروياتهم، على الأقل في القرنين الأولين. بل يندر أن تجد ذلك فيما بعد أيضاً.

رغم كل هذا، تراكمَ في أذهان كثيرٍ من المسلمين، خاصةً في العصر الحديث، الشعورُ بضرورة سَحبِ وإضافة وصفِ (التقديس) إلى مئات المسائل في الإسلام، ومنها كثيرٌ يُختلفُ عليه حتى في كتب الفقه والسنة والتفسير!

نسي هؤلاء أن كتاب عقيدتهم يُوصف عندما يُذكر بالـ(كريم) وليس بالمقدّس. وأن نبيهم أيضاً يوصف عندما يُذكر بالـ(كريم) وليس بالمقدس. لم ينتبهوا إلى دلالات الفرق المعرفي والفلسفي العميق بين استخدام وصف (المقدس) للإشارة إلى الكتاب والأنبياء في اللغات الأخرى. غفلوا أن ذلك الكتاب لا يدعو الناس إلى (تقديسه) إطلاقاً. وأنه يدعو بدلاً من ذلك إلى النظر والتفكر والتدبر والسعي والعمل وإشاعة الخير والحق والعدل.. تجاوزوا حقيقة أن الكعبة (مُشرّفة) وليست (مقدّسة). قفزوا فوق المعاني الكامنة وراء عدم إمكانية استخدام تصريف (القدُّوس) إلا للإشارة إلى الخالق، كما ذكرنا أعلاه. لم يدركوا، بِعُمق، الإشارات الكامنة وراء الحرص الشديد الذي كان مطلوباً على تجنّب التقديس للأشخاص وللأماكن وللمظاهر.

مرةً أخرى، لا مفرَّ من الانتباه إلى السياق الثقافي والاجتماعي والسياسي الذي كان سائداً خلال العقود الماضية، في عالم العرب تحديداً، وساهمَ بشكلٍ كبير في صياغة طريقة تفكير العرب بدينهم ودُنياهم.

فإذا كان كل شيءٍ مضبوطاً في واقع العرب، حتَّمت التوازنات السياسية والاجتماعية بقاء شيءٍ واحد كان عصياً على الضبط. ذلك هو الإفراط في (الضبط) في مجال الدين. إذ وُجدَ دائماً، وبتزايدٍ ملحوظ، من يشعر بالذعر من التغيرات المتسارعة القادمة، ويؤكد على ضرورة حراسة القيم (والدين ابتداءً)، بأيّ طريقةٍ ممكنة.

وكان المدخل السهل دائماً، هو مدخل المنع والضبط والتحريم، بل والتفنُّنُ في ذلك. فامتدَّت المحاولات تدريجياً إلى كل ما له علاقة بمجال الفكر والثقافة، وطبيعة الحياة الاجتماعية اليومية، وأنماط الحديث والمظهر والتصرفات، والأدب والفن بطبيعة الحال.

هكذا، من ذلك المدخل، سادت بشكلٍ هائل ممارساتُ الإسهام في التحريم، وتوسيع دوائر الثوابت، والإبداع في الضبط، والتفنُّنُ في المَنع، لأحد سببين: فإما أن تصدر الممارسات عن مشاعر حقيقية بالذعر والخوف على (ضياع الدين). أو تكون وظيفةً وطريقاً للموقع الاجتماعي والمكاسب المعنوية والمادية..

وفي الحالتين، اشتعلت المنافسة، واحتدم السباق. وفي كل مجال، صار هناك مَلَكيُّونَ أكثر من المَلِك، كما يُقال.

لم يعد التحريم في الدين، وتوسيع دائرة (الثوابت) وقفاً على عالم دينٍ واعٍ بمقاصد الدين من ناحية، وبظروف عصرهِ وزمانهِ من ناحية ثانية. بل شاركَ فيه كل من تعلَّم آيةً وحديثين. لم يعد الضبط الاجتماعي والثقافي والأخلاقي والأدبي والفني محصوراً في دائرة أهل الاختصاص. وإنما تجاوزَهم إلى كل من هبّ ودبّ.

تمّت محاصرةُ معاني الحرية. وجرى تضييق معاني الاستقلالية والاختيار الشخصي. فأضحى الإنسان العربي المسلم، في مرحلةٍ من المراحل، لايختلف عن الآلة. سوى في قدرته على الطعام والشراب والإنجاب. ظهر (الروبوت الإسلامي)، باستعمال وصف ياسين الحاج صالح.

توقف الإبداع في الفكر والثقافة والأدب والفن. صار سهلاً وصفُ كل إبداع بأنه ابتداع. واتهام كل تجديد بأنه طعنٌ للأصالة. ونَعتُ كل خروجٍ على المألوف بأنه منكرٌ وخطيئة. وكل رأي آخر بأنه مخالفٌ للإجماع!

لم ينتبه كثيرٌ من العرب المسلمين في زحمة الحياة بأن توسيع دائرة المحرمات بشكل سرطاني هو الوصفة المثالية لقتل عقلية المحرمات عندما تأتي ظروف ملائمة لذلك، وهاهي قد أتت. لكن النسيان وعدم الانتباه ليست أعذاراً مقبولة على طريق صناعة مستقبل الجماعات البشرية.

contact us
Nabd
App Store Play Store Huawei Store