Logo
صحيفة يومية تصدر عن مؤسسة المدينة للصحافة والنشر
محسن علي السهيمي

الكاريكاتير.. هل أصبح خارج عصره؟

A A
ذات زمن كان فنُّ الكاريكاتير من أصدق الفنون التي تُعبِّر عن هموم المجتمعات، وربما كان يرجح ببقية الفنون؛ كونه وحده الذي كان يمر بصورة غير مثيرة للجدل، وبصورة لا تستدعي المساءلات ولا التحقيقات من المؤسسات المعنية بالنقد، ولذا كان ممرًا آمنًا للنقد وللضرب تحت الحزام، وربما كان يحظى بالرضا والقبول من المنقود نفسه قبل غيره. عملية القبول للكاريكاتير ربما تعود لكونه لا يَستخدم الصوت الحاد، ولا الجُمل المثيرة، ولا الصور المباشرة، وهذه جميعها تستنفر الجهةَ المستهدَفة وتغيظها، وتجعلها لا تقبل بهكذا نقد، مما يحملها على الرد بكل قوة وقسوة في العبارة، ولذا رأينا كيف أن الكاريكاتير ابتعد عن الحالات السابقة جميعها وعمد للخيال وجسَّد الهدف في رسمة ساخرة مضحكة تتجاوز حدود المعقول وتقتحم حدود اللاممكن، وهو ما جعل الرسمة الكاريكاتورية مقبولة مستساغة على الرغم من مرارتها، وكأن المخيال الكاريكاتيري يعمل بأسلوب دس السم في العسل. ولقد تفتحت أعين الأجيال العربية على ثلة من رسامي الكاريكاتير كانوا سادة للمشهد، وهدفًا للصحف، وقِبلة للقُراء، حتى إن الصحيفة ربما يُشار إليها وإلى مكانتها بقدر كفاءة رسام الكاريكاتير الذي حظيت به، وربما كان بعض القراء يجعل الكاريكاتير هو أول ما تقع عليه عيناه، وربما يعمد بعض القراء لإكمال قراءة الصحيفة أو تركها بناء على حالة الدهشة والإعجاب التي أحدثها رسام الكاريكاتير في نفسيته، بل تخطَّى الأمر أبعد من ذلك؛ فأنت ترى الصحيفة تزداد قبولاً ومكانة لدى القراء أو العكس بقدر كفاءة رسام الكاريكاتير الذي حظيت به. ولعل الذاكرة والذائقة العربيتَين تحتفظان بأسماء رسامِين كبار حفروا أسماءهم في وجدان المتلقي العربي برسوماتهم المثيرة للدهشة، المستوجبة للضحك، الضاربة في الصميم، ولعل من أشهر تلك الأسماء الرسامَين الكبيرين (محمود كحيل وناجي العلي) اللذين أمتعا القارئ العربي، ونفَّسا عنه، وحظيا برضاه ومتابعته. ومع ثورة التقنية ومزاحمة وسائل التواصل الاجتماعي للصحف والمجلات ورحيل عمالقة الكاريكاتير أو تنحيهم، كان في حكم المؤكد أن يفقد الكاريكاتير مكانته، وهو ما حصل؛ ذلك أن وسائل التواصل الحديثة وتقنياتها جعلت المتابع يصل إلى عمق ما كان مغيبًا عنه أو محظورًا عليه؛ حيث لم يكن له من وسيلة لبلوغه سوى رسوم كاريكاتيرية مبالغ فيها تجعله يعيش سكرة الخيال ليصحو بعدها على مرارة الواقع، فهذه الوسائل نحَّت الخيال الذي كان يلعب عليه الكاريكاتير، ونحَّت الهزل الذي كان يمرر الرسام بواسطته فكرتَه، وأخذت المتابع لعمق الحدث، وسبرت أغوار المؤسسات والأفراد بشكل مباشر لا يقتات على الخيال أو الهزل، وهو ما جعلها أكثر موثوقية، وبالتالي اغتنى بها المتابع على حساب الكاريكاتير الذي هو بمثابة السكْرة التي تجعله يعيش عالمًا آخر، لكنه سرعان ما يعود لواقعه المرير. ثم إن الكثير من رسامي الكاريكاتير لازالوا -إلى اليوم- يعمدون للإثارة المكشوفة والتضخيم والمبالغة ومجاوزة الحقيقة؛ ظنًّا منهم أنهم لايزالون مسيطرِين على وعي المتابِعِين، وكأني بهؤلاء الرسامِين يعيشون في عوالم أخرى، أو أنهم لا يعلمون -وهم يعلمون- أن المتابعِين أدركوا الحقائق وما وراءها بفضل وسائل التواصل الحديثة، ولم تعد رسومات هؤلاء الرسامين تشكل لهم أدنى اهتمام، بل إن أغلبها يستدر شفقة المتابعِين. على هذا لا نعجب حين نرى بعض الصحف وقد أزاحت من اهتماماتها الرسم الكاريكاتيري واستفادت من المساحة التي كان يشغلها بما هو أَولى. لذا ينبغي أن يدرك رسامو الكاريكاتير أن مادة رسوماتهم هي (الخيال)، لكن ما الحيلة وقد أصبح العصر اليوم عصر (الحقيقة) التي أغنت الجميع وحلت محل الخيال؟! وكأني بالكاريكاتير أضحى اليوم شبيهًا بالرومانسية التي سادت ذات زمن شعري ثم حلت محلها الواقعية التي أظهرت الواقع كما هو بكل تفاصيله، فأزاحت الرومانسية عن كثير من تفاصيل المشهد. وتأسيسًا على تلك المعطيات هل يمكننا القول إن فن الكاريكاتير أصبح يعيش خارج عصره؟.
contact us
Nabd
App Store Play Store Huawei Store