Logo
صحيفة يومية تصدر عن مؤسسة المدينة للصحافة والنشر
وائل مرزا

أيُّ (ثوابت)؟ وأيُّ (مُقدَّسات)؟ (8)

A A
خَتَمنا المقال السابق من هذه السلسلة بالحديث عن (ثوابت) جديدة، وضعها أحد قادة جماعة (الإخوان المسلمين) في مصر، تتضمن فيما تتضمن «أركان البيعة» في الجماعة، واسمها، وشعارها، ومقولة «الإسلام هو الحل»! يجدر التنبيه إلى أن الرجل ذكر أن (الثوابت) المذكورة تنطبق على من يكون عضوًا في الجماعة.. لكن هذا لا يلغي الإشكالية الكبرى الكامنة في هذا الموضوع، بأصله، وبما ترتّبَ، تاريخيًا، ويترتبُ، راهنًا، على ذلك الأصلِ من إشكاليات.

نتحدث هنا عن موضوع التوسيع المُفرط لدوائرِ ما يتم التعاملُ معها على أنها (ثوابت) و(مقدّسات)، ولو لم يتمَّ، لفظيًا، وصفُ تلك القضايا بتلك الصفة.. والحقيقة أن المثال المذكور أعلاه مُعبّرٌ في معرض توضيح خطورة ذلك التوسيع.. لأنه يخلق في المجتمعات المسلمة أجواء نفسية وفكرية تسمح، كما ذكَرنا، بشيوع درجةٍ من الفوضى في فهم الدين وتنزيله على الواقع لا يعود لها ضابط.

المفارقة أن القرآن نفسَه يوضح، بشكلٍ مباشر وغير مباشر، حِرصه على إبعاد المسلم بكل طريقة ممكنة عن الغرق في أبعاد عملية (التقديس) المادي للأشخاص والأشياء والأفكار.. والهدف الحساسُ هنا هو تجنُّبُ أن تصبح هذه العملية، في يومٍ من الأيام، لُبَّ الإسلام، والدليل بـ(أل التعريف) على احترامه والالتزام به.. وتجنُّبِ أن تصبح هذه المسألة مناطَ الحُكمِ على الأشخاص والمجتمعات والأفكار ومقياس التعامل والعلاقة معها، بدلاً من النظر إلى شمول القضايا وتعقيدها وتداخلها.

لنأخذ مثالًا حساسًا وأساسيًا يتمثل في شخص الرسول.. (وقالوا يا أيها الذي أُنزل إليه الذكر إنك لمجنون)، (وقال الكافرون هذا ساحرٌ كذاب)، (ويقولون أئنا لتاركوا آلهتنا لشاعرٍ مجنون)، (أم يقولون به جِنّة)، (قال الكافرون إن هذا لساحرٌ مبين)، (ثم تولوا عنه وقالوا معلّمٌ مجنون).

معلمٌ مجنون، ساحرٌ، كذّاب، مسكونٌ بالجنّ.. هذه بعضُ الأوصاف التي أطلقها على رسول الإسلام أولئك الذين لم يؤمنوا برسالته.. حدثَ الأمر قبل أكثر من أربعة عشر قرنًا.. كان يمكن بسهولةٍ وبَساطة أن يَطويَ التاريخ هذا النوع من التصرفات ويسكتَ عن الموقف، وأن تموت معهُ تلك الاتهامات.. خاصةً وأن (المُتَّهم) انتصر على خصومه المذكورين بطريقةٍ أو بأخرى.. ونحن نعرف أن التاريخ يكتبه المنتصرون كما يحلو لهم في أغلب الأحيان.

مع هذا.. لم يُبدِ القرآن أي حرصٍ على إخفاء الأوصاف، رغم كل ما تَحمِلُه من تحدٍ وهجوم.. لم يحاول قطّ أن يطمسها في عالم النسيان، مع أنه كان يستطيع ذلك دون أن يخطر في بال أحد أن يتساءل عن السبب.. لم يخشَ من تأثيرها على مقام النبي الذي جاء بالرسالة في عيون أتباعه، وفي عيون الناس من ورائهم إلى يوم الدين.. لم يرَ في إيرادها وتكرارها والتفصيل في الإخبار عنها طعنًا جوهريًا في شخص الرسول الكريم، ولا مَسًا حقيقيًا بكرامته وسمعته.

لم يحصل ذلك كله وإنما حصل العكس.. خطَّ القرآن في موقفه من المسألة درسًا في الممارسة الحضارية كان لابدّ أن يُسجّلَ في تاريخ الإنسانية.. وذلك حين ضَمِنَ لتلك الاتهامات الحفظَ إلى يوم القيامة من خلال خلوده.. وتَركَ المجال مفتوحًا لقراءتها واستعراضها ومعرفة خلفياتها وأبعادها ودلالاتها.. ويمكن القول بأنه اعتبرها بِلُغة هذا العصر (رأياً آخر) يستحق أن يبقى وأن يَسمعه الناس في كل زمانٍ ومكان.

بل تجاوز القرآن كل ما سبق وقام بعَرضها في إطار أسلوبه الأنيق بكل ما فيه من بلاغةٍ وبيان، وجمالياتٍ في الألفاظ والجمل والتراكيب يتذوقُها من يعرف شيئًا عن اللغة العربية، مسلماً كان أو غير مسلم.

لم يحدث هذا عبثًا.. لم تأتِ هذه المعالجة للموضوع خطأً أو سهواً!

كان القرآن فيما نحسب يريد أن يضبط التصورات والمفاهيم في قضيةٍ حساسة وخطيرة تؤثر على الوجود البشري في هذه الأرض على الدوام.. كان ولا يزال يهدف إلى تحرير الإنسان من تقديس الإنسان.. حتى لو كان الأمرُ يتعلق بصاحب الرسالة الأخيرة.. وبالرجل الذي تعتبرهُ الرسالةُ نفسها خيرَ بني البشر.. الرجل الذي يؤكدُ القرآنُ أن الله وملائكته يُصلّون عليه، وهي منزلةٌ ليس كمثلها منزلة في مقاييس الرسالة.

كان القرآن ولا يزال يهدف عندما عالج الموضوع بتلك الطريقة إلى ضبط التوازنات في العلاقة بين الإنسان والفكرة.. وإلى التأكيد بأن الهدف النهائي والأكبر يتمثل في ربط الناس بفكرةٍ ترمي لتأكيد قيم الحق والعدل والحرية والجمال في حياة البشرية على هذه الأرض.

من هنا، لم يرَ القرآنُ أن مكمن الخطر على الفكرة يتمثل في تحدّي حاملها، ولا في الإساءة إلى شخصه، ولا في التهجم عليه، ولا في توجيه الاتهامات عليه.. حتى ولو كان يرى في مثل تلك التصرفات درجةً من الافتراء.. كان هذا هو الدرسَ الكبير، ولا يزال.

كانت النيةُ ختمَ هذه السلسلة من المقالات هنا.. لكن تعليقات بعض القراء تستحق التفاعل معها في المقال القادم.

contact us
Nabd
App Store Play Store Huawei Store