Logo
صحيفة يومية تصدر عن مؤسسة المدينة للصحافة والنشر
وائل مرزا

أيُّ (ثوابت)؟ وأيُّ (مُقدَّسات)؟ (٩)

A A
«بصراحة كلامك غامض وغير دقيق أبداً، مثلاً تقول: (أصبحت آراء بعض العلماء وفتاويهم، سواء كانوا معاصرين أو قدماء، ضمن دائرة المقدسات تلك. لا يجوز مناقشتها والحوار فيها، فضلاً عن تفنيدها والرد عليها وإظهار عيوبها ومثالبها). وبصراحة لم أسمع مثل هذه التهمة من شخص لديه معرفة بسيطة بالشريعة والفكر الإسلامي!!. وأنا واثق أنك تعلم ذلك جيداً، لذا السؤال هو: ما الفائدة أن نتوهم تهمة غير موجودة، أو نخترعها، لنقوم بالرد عليها؟»

كان الكلام أعلاه تعليقاً من أحد القراء الكرام، وهو أستاذٌ للشريعة كما ذَكَر، على مقالٍ من هذه السلسلة. وأنا أنقله هنا حرفياً، باستثناء تصحيح همزات القطع أعلاه، والتي كانت في الأصل كلها همزات وصل!

ثمة في الموضوع مفارقةٌ كبيرة تُعبّرُ عن حقيقة الوقوع في مأزق ما يُسمى علمياً (عقلية الإنكار) Denial Mentality ، ليس فقط لدى شرائح كبيرة من عموم أفراد مجتمعاتنا، وإنما أيضاً لدى كثيرٍ ممن يُفترضُ أن يكونوا متخصصين. وهذه ظاهرةٌ تزيدُ من خطورة الأمر وتأثيره السلبي في حاضر ومستقبل المجتمعات الإسلامية، بثقافتها وممارساتها وواقعها ومصيرها بشكلٍ عام.

لقد ذكرنا، قصداً، في بداية المقال السابع مايلي: «لسانُ الحال أبلغُ من لسان المقال كما قالت العرب. وحين نتحدث عن تقديس الأفكار والأشخاص في تاريخنا وواقعنا الراهن، فالحديثُ عن مظاهر لاحصرَ لها في الواقع والتاريخ تُظهِرُ تلك الحقيقة، وليس عن ألفاظ شفهية قد يتحرز كثيرون من قولها، ولو صدَّقَت ممارساتُهم العملية إيمانَهم بها». والذين يُجادلون في الموضوع، ويتحدَّونَ أن نأتي بمن يقول بـ (التقديس) لفظاً يُمارسون نوعاً من (الظاهرية) و(الحَرفية) لا تخدم الموضوع في قليلٍ أو كثير.

لم تكن نية كاتب المقالات معقودةً على الدخول في تفاصيلَ مثل المذكورة أدناه. لكن هذا يبدو ضرورياً لكيلا يحسبَ غيرُ المتخصصين من القراء أننا ندعو لفتح الملف كنوعٍ من العبث. لنستعرض إذاً بعض الأمثلة.

عن أبي الحسن عبيد الله بن الحسين الكرخي أحد (كبار) العلماء وأعلام المذهب الحنفي، وَصَفهُ من تَرجمَ له بأنه انتهت إليه رئاسة الحنفية.. يقول: « الأصلُ أن كل آيةٍ تُخالِفُ قولَ أصحابنا فإنها تُحمَلُ على النسخ أو على الترجيح والأولَى أن تحمل على التأويل من جهة التوفيق». وهي مقولةٌ لم أجد من يُنكِرُها. فماذا يعني القول المذكور بهذه الصراحة؟ ألا يعني (تقديس) آراء المذهب وعلمائه؟ هذا مع ذكر المفارقة التي تتمثل فيما نُقل عن ابن حنيفة ذاته حين قال: «إذا قلت قولاً يخالف كتاب الله تعالى وخبر الرسول صلى الله عليه وسلم فاتركوا قولي».

وماذا عن مقولة ابن عابدين (في رسائله)، ومقولة غيره، بأن من بعد المائة الرابعة قد أغلق باب للقياس، وأن من كان بعد المائة الرابعة فليسوا بأهل للقياس. ألا تعني إضفاء نوعٍ من (القداسة) على مقولات السابقين؟

وكيف نفسر قول محمد بن موسى الحنفي - قاضي دمشق - المتوفى سنة 506هـ: «لو كان لي من الأمر شيء لأخذت من الشافعية الجزية». وكذلك قول أبي حامد الطوسي المتوفى سنة 567هـ: «لو كان لي أمر لوضعت على الحنابلة الجزية». كما ورد في (البداية والنهاية). وبالمقابل، نجد الشيخ ابن حاتم الحنبلي يقول: «من لم يكن حنبلياً فليس بمسلم»، في (تذكرة الحفاظ).

بل إن التقديس (العملي) للأشخاص والفتاوى وصل إلى حد القتل! فهذا الفقيه - أبو منصور - المتوفى سنة 567هـ قتله الحنابلة بالسم تعصباً عليه، قال ابن الجوزي: إن الحنابلة دسوا إليه امرأة جاءت إليه بصحن حلاوة، وقالت: هذا يا سيدي من غزلي، فأكل هو وامرأته وولده وولدٌ له صغير فأصبحوا موتى، وكان من علماء الشافعية المبرزين. كما ورد في (طبقات الشافعية).

أما آخرون فقد افتروا على الرسول كذباً، (تقديساً) لشيخهم، وذلك مثل قولهم عن الرسول أنه قال: «آن آدم افتخر بي وأنا أفتخر برجل من أمتي اسمه النعمان». وأنه قال: «الأنبياء يفتخرون بي، وأنا أفتخر بأبي حنيفة من أحبه فقد أحبني ومن أبغضه فقد أبغضني»، كما ورد في (الياقوت في الوعظ).

وادعت المالكية لإمامهم أموراً، منها: «أنه مكتوب على فخذه بقلم القدرة مالك حجة الله في أرضه، وأنه يحضر الأموات من أصحابه في قبورهم ويُنّحي الملكين عن الميت، ولا يدعهما يحاسبانه على أعماله»، كما ورد في (مشارق الأنوار).

ولقد حظي أبو حنيفة وحده، رغم أنه ذكرَ المقولة الذهبية التي أوردناها أعلاه، من هذه الفضائل بمجموعة من الكتب، نذكر منها على سبيل المثال: (عقود المرجان في مناقب أبي حنيفة النعمان)، لأبي جعفر الطحاوي. و(مناقب أبي حنيفة) للخوارزمي. و(البستان في مناقب النعمان) للشيخ محي الدين عبد القادر بن أبي الوفاء، و(شقائق النعمان في مناقب النعمان) للزمخشري..

هذا غيضٌ من فيضٍ متوفرٍ في كتب منظومة الفقه والتفسير والسنة السائدة في تاريخ المسلمين. وإن زعمَ البعض أن هذا الغيض وحدهُ لايدعم مقولتنا في هذه المقالات، فسنَحارُ بالتأكيد في الإجابة عليه!.

contact us
Nabd
App Store Play Store Huawei Store