Logo
صحيفة يومية تصدر عن مؤسسة المدينة للصحافة والنشر
وائل مرزا

أيُّ (ثوابت)؟ وأيُّ (مُقدَّسات) (١٠)

A A
قال الجويني، إمامُ الحرمين، في كتابه (مغيث الحق في ترجيح القول الحق): «نحن ندعي أنه يجب على كافة العاقلين وعامة المسلمين شرقاً وغرباً بُعداً وقُرباً انتحال مذهب الشافعي ويجب على العوام الطغام والجهال الأنذال أيضاً انتحال مذهبه بحيث لا يبغون عنه حولاً ولا يريدون به بدلاً».

وقال الإمام الفخر الرازي في (مناقب الشافعي): «القول بأن قول الشافعي أخطأ في مسألة كذا إهانة للشافعي القرشي وإهانة قريش غير جائزة فوجب ألا يجوز القول بتخطئته في شيء من المسائل».

وقال السيوطي في كتابه (جزيل المواهب في اختلاف الذاهب): «من أدى صلاته على مذهب الشافعي كان على يقين من صحتها، ومن صلاها على مذهب مخالف وقع الخلاف في صحة صلاته».

مقابل ذلك، قال علاء الدين الحصفكي، الفقيه والمحدث وإمام الحنفية في دمشق في زمانه: «فَلعنةُ ربِّنا أعدادَ رملٍ على مَن ردَّ قول أبي حنيفة».

أما محمد بن موسى الحنفي، قاضي دمشق فقد قال: «لو كان الأمر لي لأخذتُ الجزية من الشافعية»، كما نقل الذهبي في (ميزان الاعتدال في نقد الرجال).

ونجد في (سير النبلاء) أن أبو إسماعيل عبد الله الهروي الأنصاري، الفقيه الحنبلي، وشيخ خراسان الذي يعود نسبه إلى الصحابي أبي أيوب الأنصاري، يقول: «أنا حنبليٌ ماحييتُ وإن أمُتْ فوصيتي للناس أن يتحنبلوا».

وأخيراً في هذا المقال، يجدر ذكر ماورد في كتاب (السنة) لعبد الله بن أحمد بن حنبل من أقاويل بحق أبي حنيفة (تشيبُ لهولها الوِلدَان) كما تقول العرب.

وفيما يلي بعض ماهو واردٌ في الكتاب المذكور: «أُخبِرت عن إسحاق بن منصور الكوسج، قال: قلت لأحمد بن حنبل يؤجر الرجل على بغض أبي حنيفة وأصحابه؟ قال: إي والله..... حدثني منصور بن أبي مزاحم، سمعت مالك بن أنس، ذكر أبا حنيفة فذكره بكلام سوء وقال: (كادَ الدين، وقال: من كادَ الدين فليس من الدين).... حدثني أبو معمر، عن الوليد بن مسلم، قال: قال مالك بن أنس (أيُذكر أبو حنيفة ببلدكم؟) قلت: نعم، قال: (ما ينبغي لبلدكم أن يُسكن).... حدثني الحسن بن الصباح البزار، حدثني الحنيني، عن مالك بن أنس، قال: (ما وُلد في الإسلام مولودٌ أضرُّ على أهل الإسلام من أبي حنيفة)...».

ومن الذين طعنوا كذلك في أبي حنيفة، في هذا الكتاب، حماد بن زيد وشريك بن عبدالله ووكيع بن الجراح وأبو إسحاق الفزاري ويوسف بن أسباط وأبي عوانة وسلام ابن أبي مطيع وأبو جعفر بن سليمان الذي كان يرى أبا حنيفة زنديقاً، وحسن بن صالح والأصمعي وحماد بن سلمة الذي أكثر الفُحش في أبي حنيفة حتى وصلت شتائمه للرجل حد التواتر من طرق كثيرة، وكذلك إمام التصوف عبدالله بن المبارك وسفيان بن عيينة وأبو خالد الأحمر وحفص بن غياث وأبي حمزة السكري وأسود بن سالم وأبي زائدة وعبدالرزاق الصنعاني ومحمد بن جابر وهوذة بن خليفة وعبدالله بن يزيد وأبو سلمة الجهني وقتادة بن دعامة..

وفي الكتاب اتهاماتٌ لأبي حنيفة يكاد لايصدقها عقلٌ منها أنه «كافرٌ، وزنديقٌ، ينقض عُرى الإسلام عروةً عُروة، وأنه أبو جيفة وليس أبو حنيفة، وأن الخمّارين خيرٌ من أبي حنيفة، وأن الحنفية أشدُّ على المسلمين من اللصوص، وأن المسلم يُؤجرُ على بغضه...» إلى غير ذلك من أوصاف ساقها كثيرٌ ممن اتهموه بدعوى دفاعهم عن السنّة، وأنه يقول في الدين برأيه.

الجدير بالذكر أن ممن وثّقَ الكتاب المذكور النسائي والدارقطني والبغدادي والذهبي، والتوثيق في عُرف أهل الحديث أن روايته صادقة لا تُرد، بما يعني قبولهم بمحتوى كتابه (السنة) وكتابه الآخر (المسند).

ثم وصلنا في القرن الثالث عشر الهجري مع أحمد بن محمد الخلوتي، الشهير بالصاوي المالكي إلى قوله: «إن من خرج عن هذه [المذاهب] الأربعة فهو ضالٌ مُضِلّ ولو وافق الصحابة والحديث الصحيح والآية، وربما أداه ذلك إلى الكفر لأن الأخذ بظواهر الكتاب والسنة من أصول الكفر»!؟ وذلك في حاشيته المُسمّاة (بَلغةُ السالك لأقرب المسالك).

هذا جزءٌ من تاريخنا سيجده من يعود إلى الكتب الموجودة أعلاه. والمشكلة أن كثيرين يتملصون منه لأسباب عديدة: فالبعض يرى فيه إساءةً لعلماء كبار! والبعض الآخر يقول إن طرح مثل هذه القضايا يُشكِّكُ الناس بالدين، والبعض الثالث لايرى علاقةً بين هذا الجزء من تاريخنا وبين واقعنا المعاصر، وهو، لهذا، لايرى أي جدوى من وراء طرحِهِ أو الحديث فيه.

يعجز هؤلاء عن رؤية الصيرورة التي شكّلت ثقافتنا الإسلامية الراهنة بكل سلبياتها، وهي الثقافة التي شكّلت وتُشكِّلُ، بدورها، واقعنا العملي المعاصر. يتهربون من حقيقة أن مثل تلك الطروحات، في زبدتها، هي أصلٌ من الأصول التي تؤدي إلى (تقديس) الأشخاص وآرائهم. يتجاهلون أنها جذرٌ أصيل من جذور الخلاف والانقسام بين المسلمين تاريخياً، وفي يومنا الراهن.

كل المذكورين أعلاه بشر. وبشيءٍ من البحث، ستجد لهم آراء ومقولات قد تبلغ درجة الروعة في فهم الإسلام وطريقة تنزيله على الواقع. وستعرف أن لهم جهوداً في البحث والتأليف والتصنيف لايكاد يوجد مثلُها في هذا العصر. بل وستدرك أنهم ذكروا ماذكروه أعلاه نتيجة اعتقادٍ لديهم بأنهم يدافعون عن الدين (الصحيح).

لكنهم، أولاً وآخراً، بشر. بمعنى أنهم ليسوا معصومين من الخطأ. ولسنا هنا في مقام إلقاء اللوم عليهم، لأنهم بشر، ولكل الأسباب الواردة في الفقرة السابقة.

لكن هذا لايتناقض مع ضرورة إدراكنا لماهيّة الأسباب التي أنتجت واقعنا، وللبذور التي غُرست في التاريخ وأثمرت هذا الواقع بكل سلبياته وأخطائه.

بهذا، تكون المسؤولية مسؤوليتنا، ولايكون بالإمكان إلقاء اللوم سوى علينا، وتُصبح مسؤولية إصلاح واقعنا مُلقاةً على عاتقنا. هذا مايضيع في خضم الفوضى المتعلقة بالحديث عن التراث، وهو، تحديداً، مايجب أن يكون مجال البحث والجهد والعمل والإنتاج.

contact us
Nabd
App Store Play Store Huawei Store