Logo
صحيفة يومية تصدر عن مؤسسة المدينة للصحافة والنشر
وائل مرزا

حظرُ المُراجعات: نقضُ عُرى الإسلام بدعوى حمايتها !

A A
آن لنا الاعترافُ بأن المسلم بات يحفظ عن ظهر قلب، ومنذ عقود، جميع سيناريوهات التآمر لهدم الإسلام، والتي تستهدف وجودَهُ وهويته. حدَثَ هذا ولايزال يحدث إلى درجةٍ اختلطت فيها الحقيقةُ بالخيال والأوهام. بل وإلى مستوىً جَعَلهُ هو نفسه مُبدعاً في ابتكار سيناريوهات جديدة لتلك الممارسة المشؤومة.

يظهرُ الأمر بقوةٍ مع كل دعوةٍ لممارسة المراجعات، وللتساؤل عن حقيقة ماهو ثابتٌ وماهو متغيرٌ في الدين، والبحث فيما هو مقدسٌ وغير مقدس فيه. تماماً كما يحصل مع كاتب هذه الكلمات، وغيره كثير، لمجرد الخوض في هذه المسألة.

آن الأوان، أيضاً، لنعترف أن كثيراً من مثقفينا وعلمائنا يساهمون في تأزيم الوضع الفكري، وبالتالي الاجتماعي والاقتصادي والأمني العربي والإسلامي عبر تكرار تلك الممارسات. وهم يسحبون من إنساننا القدرة على الفعل الضروري، فعلِ المراجعة والنقد والتصحيح الذاتي، ليضعوا هذا الإنسان في موقع حيرةٍ شديدة، إما أن تؤدي إلى الانفجار، أو إلى اليأس والإحباط والهزيمة الداخلية والانسحاب الكامل. فهذا ما يحدث في حالات الانسداد الثقافية، والناتجة عن افتقاد الإجابات على الأسئلة الكبرى التي يطرحها الواقع الصعب المعقّد، كما هو الوضع تماماً في الحال الراهنة للعرب والمسلمين.

رغم هذا، يبقى واقعنا مُبشِّراً، ليس فقط بوجود مَنْ يمضون قدُماً في التساؤل وفتح الملفات والبحث عن إجابات جديدة، بل وفي اتساع دوائر هؤلاء، رغم كل عمليات التشكيك والاتهام والتخوين! أما الباحثون عن (الحقيقة)، فسيتقدمون خطوات في طريقهم عند الاطلاع على كثافة الإنتاج في هذا المجال. لنفتح الباب هنا أمام واحدٍ من هؤلاء.

في دراسةٍ هامة له بعنوان: (أصفاد الدين: قضية الإصلاح الديني ومُعضلة الثوابت)، يقول الباحث علي علي أستاذ الدكتوراه في فلسفة التشريع الإسلامي: «لا يوجد في الإسلام ثابتٌ لم يختلف المسلمون حوله بدرجةٍ ما... فإذا كان المسلمون مختلفين حول ذات الله وصفاته وأسمائه وأفعاله ومكانه وغير ذلك، ويختلفون أكثر فيما يتعلق بالنبوة وكذلك في القرآن، فما معنى الكلام، حينئذ، عن ثوابت الدين أو مسلماته أو المعلوم منه بالضرورة؟... [إن] الثوابت المنسوبة للأكثرية تظلُّ مقيدة بكثرتها، والكثرة غير ثابتة».

بعدها، يتطرق الباحث إلى ذلك السؤال (المُفحمِ) في نظر أصحابه، والذي يُشهرُ، دوماً، سيفاً في وجه دعاة الإصلاح والمراجعة. يأتي هذا في معرض حديثه عن التغييرات الكبرى التي شهدتها الإنسانية، حيث يقول: «هذا التغيير الهائل في مقومات المجتمع الإنساني لا يمكن أن يَمرَّ على الدين بلا تأثير، وجديرٌ بالتأثير أن يناسب قدرَ التغيير. تأثير الحداثة له مناحٍ عديدة في الدين ولكن المقصود في سياق موضوعنا هو ذلك التأثير الذي يمهد للإجابة عن السؤال الذي يواجه كل من نادى أو عمل لتغيير معهود الدين: كيف عرفت من الدين ما لم يعرفه كل علماء المسلمين في أربعة عشر قرناً، وهم أقرب إلى زمن النبوة، وفي الغالب أكثر صلاحاً وعلماً؟

الإشارة هنا ليست فقط إلى نسبية التشريعات أو المفاهيم، كأن نقول إن الحداثة تستدعي تغيير بعض التشريعات أو المناهج التي صحَّت في الماضي لتُناسِبَ زمناً مختلفاً. بل الإشارة أقوى هنا إلى أن الحداثة ساعدت في الكشف عن أخطاء في التشريعات أو المناهج ظلت قائمة طوال أربعة عشر قرناً دون أن ينتبه إليها أحد. ولا غرابة في ذلك، فالأمر لا يقتصر على الدين، حيث تصححت بعد الحداثة مفاهيم شتى في علوم مختلفة ظلت سائدة منذ بدء الحضارة. فكثير من المقولات التي أنتجها الفكر الإنساني ظلت في حصن من الامتحان لصدقها لآلاف السنين، ثم انهارت دفعة واحدة مع غزارة الأدوات التي صارت في يد الإنسانية... والأمر لا ينحصر في الماديات والكشوفات العلمية. فالتغيير الذي حصل في أدوات الإنتاج والمعرفة غيّر مناحي الاجتماع الإنساني في كل شيء، في الاقتصاد والسياسة والقانون، بل وحتى الأخلاق. لا ينبغي أن يستنكف المؤمنون أن يعرضوا ما ظنوه لزمنٍ طويل من ثوابت الدين للامتحان والنقد بما صار في أيديهم من أدوات؛ فمعرفة الحق أولى من حفظ المعهود».

هذا مع خلافنا الجزئي مع الباحث في مسألة تعميم عدم الانتباه تاريخياً للأخطاء في التشريعات أو المناهج. فقد نَشَرنا في هذه الصفحة أمثلةً شتى على وجود من انتبه لها، ونَبَّهَ إليها، في سلسلة مقالات ماضية بعنوان (لماذا الانتقائية السلبية من تراث الإسلام؟).

لكن الباحث يختم دراسته بمثالٍ مُعبّر لتفسير الظاهرة، يستحقُّ التفكير، حيث يقول: «ختاماً، فقد درج الناس على التمثيل لحالة الكشف الروحي أو الهداية الدينية، إذا حصلت فجأة بأنها رؤية النور، يقولون فلان رأى النور. ولكن الرهبة الشديدة من المؤمنين تجاه موضوع الثوابت الدينية هي أقرب لحالة تسليط الضوء مباشرةً على العينين، فتغدو مادةُ الهداية سبباً في العِماية. لكي نرى، نحتاج أن نحفظ مسافة بيننا ومصدر الضوء؛ فالعبرة أن يضيء ما حولنا، فنمشي لا أن يتسلط علينا فنكمُنَ. ومفتاحُ الذهنِ المُغلَق هو أن يرى أصفادَه».

contact us
Nabd
App Store Play Store Huawei Store