Logo
صحيفة يومية تصدر عن مؤسسة المدينة للصحافة والنشر
وائل مرزا

مُراجعاتُـ(نَا).. ومُراجعاتُـ(هُم)!

A A
ما من شكٍ أننا، عرباً ومسلمين، نعيش زمن (التحديات). ولن يكون مُبالغاً فيه إذا قلنا إننا نمرُّ بأزمةٍ (وجوديةٍ)، بكلِّ معنى الكلمة، وعلى كلِّ المستويات. من هنا، قد يتساءل البعض:

هل ثمة حاجةٌ للحديث عن المراجعات والإصلاح في زمن التحديات؟ وفي عزِّ مرحلة الأزمة؟ أم أن الأَولَى تأجيل ذلك الحديث في مثل هذا الزمن تحديداً؟. يَطرح السؤال نفسهُ على الواقع العربي والإسلامي بقوة، خاصةً حين يتعلق الأمر بموضوع المراجعات المتعلقة بفهم الإسلام، وكيفية تعامله مع ذلك الواقع.

دعونا نُفكر بوجهٍ آخرَ للمسألة يتعلق بها بشكلٍ حميم. «ألا ترى كيف يطرح كثيرٌ من المفكرين والمثقفين والنشطاء والإعلاميين الغربيين بقوة وصراحة حجم المشكلات التي يمرُّ بها الغربُ نفسه، وتحديداً في أمريكا ثم أوروبا؟»، كان هذا السؤال، ولايزال، يتكرر على أسماعي خلال العامين الماضيين على الأقل، بتعبيرات مختلفة، وتحديداً من قِبَلِ مثقفين (إسلاميين). والمفارقةُ أن السؤال غالباً ماكان يُطرح بدرجةٍ ظاهرةٍ من الاحتفاء بمضمونه، يُصاحبُها نوعٍ من الفرحة الممزوجة بالشماتة!

يتعلقُ الأمر، طبعاً، بكتابات غربية متزايدة، تدخل في إطار ما يمكن تسميته عملية مراجعات ثقافية وسياسية. وهي مراجعاتٌ تمارسها اليوم شرائح واسعة من الخبراء والمثقفين والنُشطاء والإعلاميين، في الغرب بشكلٍ عام، وفي الولايات المتحدة تحديداً، على الأحداث العالمية الراهنة.

فمن المشكلات الكبرى بين المؤسستين التنفيذية والتشريعية في أمريكا.. مروراً بإعادة النظر في منظومات أساسية كبرى، كالديمقراطية والليبرالية والحداثة، خاصةً مع صعود اليمين العالمي والشعبوية، وصولاً إلى الفوضى الضاربة في النظام الدولي، وما يُسمى «موت السياسة» فيه، مع تقزُّم ساسةِ هذا العصر. ثمة مئات من الكتب والدراسات والمقالات التي تُغطي المواضيع المذكورة، وكل ماله بها من علاقة، بالبحث والتحليل، الذي يوصف بـ (النقدي)، قبل وأكثر من أي شيءٍ آخر.

المفارقة الثانية أن كلام الأصدقاء (المثقفين) كان يدخل في إطار عتبٍ، مُباشرٍ، أوغير مباشر، يُوجَّهُ لكاتب هذه الكلمات، ولغيره ممن كانوا ولا يزالون يحاولون -للمفارقة أيضاً، وما أكثر المفارقات- ممارسة عملية المراجعات نفسها داخل الإطار الحضاري والثقافي والسياسي العربي والإسلامي. وهذا اعتقاداً منهم بضرورة تكامل هذه العملية على ضفتي نهر الحضارة الإنسانية العالمية الراهنة، الغربيّ منها والشرقي.

وتلك ازدواجيةٌ فاتت هؤلاء الأصدقاء ممن يُحسَبون، عُرفاً، على المثقفين والعلماء. حصلَ هذا ويحصلُ دائماً في خضمّ الحشد العاطفي الذي يحاصرُ نفسه، ويحاصرُ العرب والمسلمين، في نفسية وعقلية وروح (المظلومية). هذا المظلوم البريء الذي تتكالب عليه الدنيا من كل حدب وصوب، دونما ذنبٍ اقترفته يداه، أو خطأ وقعَ فيه.

يُضطر المرء هنا لتكرار ماذكرناه سابقاً من أن «الشروع في عملية المراجعات، والاستمرار بها، في خضم الأزمات إنما يمثل ممارسةً حضارية بالغةَ الرُّقي والدلالة على قوةِ من يُمارسها وتجرُّده. وهي قبل ذلك إفرازٌ للمنهجية القرآنية التي تريد أن تُعلّم الإنسان أن ينظر أوّلَ ما ينظر في أوقات الأزمات والفتن إلى الداخل، إلى الذات، يبحث عن أخطائها وقصورها، بدلاً من القفز مباشرة إلى الخارج وإلى الأخر بغرض إلقاء التّبعة والتّهم عليه بشكل كامل، كما هو حالنا في أزماتنا السابقة والراهنة».

وأن هذه الطريقة في التفكير هي «مصداقٌ لمنهج أصيل يملك القدرة على التجّرد والمراجعة والاعتراف بالخطأ في قمّة الأزمة، ويملك في الوقت نفسه يقيناً راسخاً بأن ممارسة التصحيح الذاتي هي، وحدها، الطريق الأضمن للتعامل مع الهزائم والتراجعات والأزمات، دونما حاجةٍ للشكوى من الطرف الآخر، وإلى صبّ اللعنات والشتائم والاتهامات من كل نوعٍ، عليه.

تُفرز هذه الرؤية ثقةً كبيرة بالنفس، وتدلُّ على امتلاك الإنسان لقوةٍ داخليةٍ هائلة، تجعله يوقن بأن فِعله البشري هو سيدُ الموقف، وهو الذي يملك صناعة الحدث ويؤثر فيه ويقوده بالاتجاه الذي يريد، مهما كان موقف الطرف الآخر، ومهما كانت قوته وجبروته. شرطَ أن يكون من أهمّ عناصر فعله البشري المطلوب ممارسةُ النقد الذاتي باستمرار، والاعتراف بالخطأ، والتراجع عنه، خصوصاً في وقت الأزمات».

الغريبُ، والمحزنُ في الوقت ذاته، ألا ينتبه الكثيرون، من أمثال أصحابنا المثقفين (الإسلاميين)، إلى حقيقة أن تلك المقالات والدراسات والمراجعات النقدية التي يتحدثون عنها إنما هي منشورةٌ أصلاً في الصحف والمجلات الغربية! وبِلُغةِ أهل البلاد التي تَصدرُ فيها تلك الصحف والمجلات. بمعنى أن الوارد فيها هو نقدٌ ذاتيٌ داخلي لثقافتهم وشعوبهم وأنظمتهم السياسية والاقتصادية. وهو، لذلك، بمثابة التعبير الصادق عن المراجعات الكبرى التي يقوم بها الأقوياء، ثم لا يضيرُهم في شيءٍ أن يقرأها الآخرون بعد ذلك. بل ولا يعنيهم، في كثيرٍ أو قليل، أن يفرحوا ويغتبطوا بها، ويشعروا بالشماتة! بل والطُمأنينة، بأن الغرب ينهارُ من داخله!

سيغضبُ كثيرون، لهذا، حين نقول إن مثقفي الغرب يتمثلون المنهج القرآني أكثر بكثير ممن يرون أنفسهم مثقفين (إسلاميين).

وإن كان البعض يخاف من الفوضى بسبب المراجعات في زمن الأزمة، فإن غيابها تحديداً هو الذي يؤدي إلى المزيد من الغرق في المآزق على جميع المستويات. من هنا، وفي حين يفرح البعض بقضية حفظ القرآن الواردة فيه، فإن «سُنة الزوال والاستبدال» لمن لايستحقون تَمثُّل الدين وتمثيله، هي مايغفلونَ عنه بشكلٍ مُخيف، في حين ينبغي أن تكون شُغلهم الشّاغل..

contact us
Nabd
App Store Play Store Huawei Store