Logo
صحيفة يومية تصدر عن مؤسسة المدينة للصحافة والنشر
عاصم حمدان

سعيد طولة.. مؤرّخًا وباحثًا

رؤية فكرية

A A
قبل ما يقرب من عقد من الزمن اتّصل بي شخص تلفونيًّا؛ معرّفًا نفسه بأنّه من أبناء البلدة الطّاهرة؛ المدينة المنوّرة، وأنّه يسعى إلى معرفة جوانب من تاريخ المدينة المنوّرة خلال القرون المتأخّرة. وعندما تمّ هذا اللّقاء؛ رأيت أمامي شابًّا في مقتبل العمر، فسألته عن تخصّصه، فذكر أنّه يدرس الطبَّ البشري. وكان ممّا لفت نظري أثناء هذا اللّقاء أنّه كان يدوّن كلّ ما يسمعه في كراسة تشبه تلك المدوّنات التي يحملها المريدون وطلّاب العلم والمعرفة في الحقبة الماضية، في الفضاء المقدّس للحرمين الشّريفين؛ أعني مكّة المكرمة، والمدينة المنوّرة. ثمّ إذا بي، وبعد مدّة من الزّمن، أجده ضمن مرتادي منتدى الهاشميّة، الذي يقام برعاية كريمة من الأخ السيّد طريف بن حسين هاشم، وأخيه الأكبر السيّد طلال.

إن كنت قد أطلت في هذه المقدّمة؛ فلقد كان ذلك ممّا يدخل في باب إشهار مناقب الجيل الصّاعد من الكتبة والباحثين. ولعلّي قبل أكثر من عقدين من الزّمن كتبت مستشرفًا بأنّ جيلاً من الباحثين بدأ يؤتي أكله من العلم والمعرفة ويأتي في مقدّمتهم الباحث والنّاقد الدكتور محمّد الدبيسي. وفي هذه الكلمة، والتي أعلم أنّها لا تفي بحقّ الجيل الصاعد من الباحثين في تراث العاصمة الأولى للإسلام، أودّ أن أشير إلى أنّ الباحث سعيد طولة أخرج سفرين جديرين بالقراءة؛ وهما: «سفر برلك وجلاء أهل المدينة المنوّرة»، والآخر «لمحات من الحياة العلمية في المدينة المنوّرة من القرن الحادي عشر إلى القرن الرابع عشر»، وهي حقبة شهدت ألوانًا وضروبًا من العلم والمعرفة والأدب.

وبداية أسعى لتذكير المريد الهمام بأنّه لم يأتِ في كتابه «اللمحات»، على شخصية أدبية برزت في القرن الثاني عشر الهجري؛ وأعني به الشّاعر السيّد جعفر البيتي، والذي لا يزال ديوانه مخطوطًا، وتوجد منه نسخ خطّية متعدّدة في خزائن ومكتبات العالم؛ العربي منها والغربي. وتعتبر بيئة المدينة المنوّرة من أكثر البيئات العلميّة والفكريّة والأدبية احتضانًا للعلماء، بما شكّل منها مركزًا علميًّا يقصد حلقات الدرس فيه كثير من طلاب العلم، وفي مقدّمتهم من اضطلعوا بأدوار إصلاحيّة، ودليلنا على ذلك مدرسة الحديث، التي نشأت خلال القرن الحادي عشر الهجري بريادة الشيخ إبراهيم بن حسن الكردي الكوراني المدني [1025هـ - 1103هـ]. انظر ترجمته في: تراجم أعيان المدينة المنوّرة في القرن الثاني عشر الهجري ص 68. وعن آل الكوراني أخذ المجدّد الشّيخ ولي الله الدهلوي، الذي استقرّ بالمدينة المنوّرة في الفترة ما بين 1143هـ و 1145هـ، كما أخذ الشيخ المُجدّد محمّد بن عبدالوهّاب عن الشيخين محمّد حياة السّندي، وعبدالله بن سيف، رحمهم الله جميعًا.

كما شهدت المدينة المنوّرة في مطلع القرن الرابع عشر الهجري بروز شخصيات أدبية متميزة، مثل: الشاعر عبدالجليل برّادة، وإبراهيم الأسكوبي، وأنور عشقي، وكانوا يجمعون في شخصياتهم بين العلم والأدب، كما كان بعضهم له حلقات في رحاب المسجد النّبويّ الطّاهر. ولابد من الإشارة إلى أن هؤلاء الشعراء، وسواهم، وجدوا عنتًا ومشقّة من بعض الحكّام الأتراك، الذين كانوا يتولون السّلطة التنفيذية في المدينة المنوّرة، ومن أشهرهم من حيث الغلظة والقسوة والقمع هو والي المدينة المنوّرة آنذاك؛ عثمان باشا.

وقد ذكر عزيزنا «طولة» شيئًا من مدوّنة الرّحالة الإنجليزي إيلدون روتر Eldon Rutter تتحدث عن بعض حلقات العلم في المسجد النّبويّ الشّريف، وكان ذلك في عام 1344هـ بعيد تسلّم الملك عبدالعزيز لمقاليد الحكم في المدينة المنوّرة من حكّامها السابقين. ولقد وجدت فيما كتبه عن حلقة الشيخ محمّد بن علي التركي، رحمه الله، وصفًا دقيقًا لهذه الحلقة، وكيفية تعامل الشيخ مع المريدين، وخصوصًا أولئك القادمين من خارجها. وقد عُرف ابن تركي -رحمه الله- بزهده في متاع الدنيا، إضافة إلى صراحته وجرأته. كما أخذ بعضهم منه العلم، كالشيخ محمّد سعيد نعمان، الحنبلي، الذي أصبح فيما بعد شيخًا لمؤذني المسجد النّبويّ الشريف. كذلك قرأ عليه الشيخ الحافظ لكتاب الله محمّد منصور عمر، رحمه الله. وأخذ عنه من الأدباء كذلك بعض جيل الروّاد، مثل حسين سرحان أثناء إقامة الشيخ ابن تركي مدّة من الزّمن في البلد الحرام.

إن ميزة كتاب الباحث «طولة» أنّه اتبع منهجًا علميًّا موثقًّا رغم أنّ تخصّصه يدخل في دائرة العلم التجريبي؛ إلا أنّه كذلك أجاد في ما كتبه عن سفر برلك، وعن هذا الكتاب الذي عرضنا له في هذه الحلقة.

ومن باب الإنصاف؛ فإنّني أشير إلى أنّ المؤرّخ الاجتماعي أحمد مرشد قد دوّن كتابًا عن مأساة سفر برلك، وجمع فيه شهادات موثقة من الذين شاهدوا أو عايشوا تلك المأساة. كما أنّ الابن الباحث الأستاذ محمّد الساعد قد دوّن كتابًا مهمًا عن هذه المأساة التي عانى منها أهل الجوار لحقبة طويلة.

contact us
Nabd
App Store Play Store Huawei Store