Logo
صحيفة يومية تصدر عن مؤسسة المدينة للصحافة والنشر
وائل مرزا

في حتمية المراجعة الجذرية لـ «العلوم الشرعية» (٢): حادثة السقيفة

A A
لم يدُر في ذهن مسلمٍ، أثناء حياة النبي الكريم، أن يُفكر بما تمت تسميته بعد ذلك بـ(علوم الشريعة). كان هذا طبيعياً مع وجود الرسول المُوحى إليه من السماء، والذي كان يؤدي، في الوقت نفسه، أدوار محمد الرسول المُبلِّغ والقاضي، ومحمد القائد السياسي والعسكري، ومحمد الإنسان الذي يعيش حياته كبشر.

لكن بشريته، عليه الصلاة والسلام، اقتضت وفاته. والواضح أن غيابَه أدّى إلى الشعور بالحاجة، بين المسلمين، إلى البحث عن وضعٍ يمكن فيه الاستمرار في أداء وظائفه التي كانت إضافيةً على بشريته الفانية. وخاصة في مجالات استكمال فهم الرسالة وتبليغها، وفي مجال القضاء بين الناس في شؤون دنياهم ودينهم، وفي المجالين السياسي والعسكري.

لكن من الواضح أيضاً أن كل أمرٍ سيحصل بعد ذلك فيما يتعلق بأداء تلك الوظائف سيكون مصبوغاً، بالضرورة، بالأحوال والمعطيات التاريخية السائدة من ناحية، وبالطبائع والخلفيات المختلفة لمن سيتولى تلك الوظائف، أو يساهم فيها بأي درجةٍ من الدرجات، من ناحيةٍ أخرى. من المهم ههنا التذكيرُ بأننا نتحدث عن بشرٍ، يُخطؤون ويُصيبون، كما ذكر القرآن. بعيداً عن (العصمة) التي يتحدث عنها البعض عندما يتعلق الأمر بالصحابة، في مخالفةٍ واضحة لطبيعة البشر كما يؤكدُها القرآن في مواضِعَ عديدة!

وسيحدثُ هذا التفاعل الطبيعي بين مُعطيات التاريخ وخصوصيات الزمان والمكان وطبيعة التحديات والأسئلة التي ستواجههم، من جهة، وبين شخصياتهم بكل مكوناتها النفسية والعقلية وحتى الجسدية الفيزيائية، من جهةٍ ثانية. سيحدثُ الأمر، سواء كان ذلك من حيث طريقة فهمهم للإسلام فيما يتعلق بكيفية تنزيل تعاليمه على تفاصيل الحياة، أو مبلغ علمهم مما سمعوه من الرسول أو رأوهُ من ممارساته، أو لجهة تفاوت درجاتهم في القدرة على التحليل وفهم الظواهر، وتفاوت شخصياتهم وخبراتهم وتجاربهم في مجالات القيادة والإدارة، بل وتفاوت إيمانهم نفسه، والذي تحدَّثَ عنه القرآن الكريم نفسهُ، عندما ذكرَ مبكراً أن فيهم (الظالمَ لنفسه والمُقتصدَ والسابقَ بالخيرات). وهذه سِماتٌ أطلقها القرآن على كل الذين وصفهم الله بقوله قبلَها (الذين اصطفينا من عِبادنا). وهذا يشمل منطقياً كل عباد الله، وإن كان قول ابن عباس بأنه ينطبق على أمة محمد! وفي الحالين فإن الصحابة هم من هذه الشريحة بالتأكيد. وفوق هذا، ستلعب انتماءاتهم القبلية والعائلية دوراً، كبيراً أحياناً، في رسم خارطة ممارساتهم، وصورة التاريخ الإسلامي، بالتالي، بعد وفاة الرسول، كما سنرى في كثيرٍ من الأمثلة.

تجلّى هذا كلهُ واضحاً في أول حادثةٍ هزّت المجتمع المسلم بأسره بشكلٍ استثنائي عند وفاة الرسول الكريم.

يمكن للقارئ أن يعود إلى الروايات الطويلة لمُجريات الأحداث، المُسماة بحادثة سقيفة بني ساعدة، في الكتب المعتمدة كالطبري وابن قتيبة وابن هشام والمسعودي والبلاذري وغيرها. لكننا سنورد هنا مُقتطفات معبّرة عن الأحداث، كما رواها هؤلاء، ثم ننتقل بعدها في المقال القادم من السلسلة إلى تحليل دلالاتها ومعانيها. وسنستعين، في النقل هنا، بدراسةٍ وافية للباحث التونسي، الدكتور باسم المكي، بعنوان «الصّراع على السّلطة بعد وفاة الرّسول: اجتماع السّقيفة أنموذجاً».

بدأ الأمر حسب ابن قتيبة بخطبة ألقاها سعد بن عبادة رغم مرضه ذكّر فيها بفضل الأنصار وسابقتهم في الدّين ونصرة الرّسول. يقول ابن قتيبة راوياً حديث سعد: «يا معشر الأنصار إنّ لكم سابقة في الدّين وفضيلة في الإسلام ليست لقبيلة من العرب (...) فشدّوا أيديكم بهذا الأمر، فإنّكم أحقّ النّاس وأولاهم به».

غير أنّ الأحداث تغيّرت بعد وصول عمر وأبي بكر، فاقترح أحد الأنصار وهو الحباب بن المنذر: «منّا أمير ومنهم أمير». عندها تطوّرت الأمور وكادت تنزلق إلى صراع مسلّح خاصّة بعد رفض عمر بن الخطاب قائلاً: «هيهات لا يجتمع سيفان في غمدٍ واحد، إنّه والله لا يرضى العرب أن تؤمركم ونبيُّها من غيركم، ولكنّ العرب لا ينبغي أن تولي هذا الأمر إلاّ من كانت النّبوّة فيهم».

فردّ الخباب [وقيل الحباب] بن المنذر ردّا صارماً يشي بخطورة مسار المفاوضات قائلاً: «يا معشر الأنصار: املكوا عليّ أيديكم ولا تسمعوا مقالة هذا وأصحابه، فيذهبوا بنصيبكم من هذا الأمر، فإن أبَوا عليكم ما سألتم فأجلوها عن بلادكم وتولّوا هذا الأمر عليهم، فأنتم والله أولى بهذا الأمر منهم، فإنّه دانَ لهذا الأمر ما لم يكن يدينُ له بأسيافنا، أمّا والله، إن شئتم لنعيدنّها جذعة، والله لا يردُّ عليّ أحدٌ ما أقـول إلاّ حطّمت أنفه بالسّيف».

تخيل معي قارئي الكريم أن هذا حصل والرسول لم يُدفن بعد.. وأن كل هؤلاء الصحابة انشغلوا بهذا الأمر حتى عن غسله وتكفينه.. في حساب العقل والمنطق، ستؤكد هذه الحادثة المبكرة أن كل ماتراكمَ بعدها من تصرفات واجتهادات وأقوالٍ وفتاوى وأحكام، وبناءٍ لـ (العلوم الشرعية)، إنما هو اجتهادُ بشرٍ، يُخطؤون ويُصيبون. وأن هذا كله، بالتالي، ليس فقط قابلاً للمراجعة الجذرية، بل إنه يفرض علينا اليوم مثل تلك المهمة، ويجعلها أولويةً في تقرير مصير الإسلام والمسلمين في الحاضر والمستقبل.

contact us
Nabd
App Store Play Store Huawei Store