Logo
صحيفة يومية تصدر عن مؤسسة المدينة للصحافة والنشر
عاصم حمدان

حسين بافقيه.. مبدعا وناقدا

رؤية فكرية

A A
أدين بالفضل بعد الله عز وجل في تكويني الفكري والأدبي، إلى مساق عديدة، ولعل من أبرزها جامعة مانشستر فكتوريا، التي عُرفت بمكانتها العلمية، وخصوصًا لاحتضانها طلابًا من جميع أرجاء البلاد العربية والإسلامية، وبينهم طلاب سعوديون في تخصّصات مختلفة؛ وكان قسم دراسات الشرق الأوسط بتلك الجامعة يجذب إليه الطلاب، لوجود مستشرق أو مستغرب عرف بتعاطفه مع القضايا العربية إلى حدٍّ كبير؛ وأعني به البروفيسور أديموند بوزوروث، الذي يقول عنه أستاذنا المرحوم يوسف عزّ الدين: إنّ بين بوزوروث والإسلام بضعة أمتار. ورحل بوزوروث أخيرًا، وفقد القسم توهجه وجاذبيته. وكما قيل في أمثالنا «المكان بالمكين».

وعند عودتي من تلك الجامعة والتحاقي بجامعة الملك عبدالعزيز بجدة، وجدت قسم اللغة العربية بكلية الآداب، يمور بخلافات عميقة، باعثها الصراع الخفي بين المحافظين والحداثيين. وكان من بين أبرز الأسماء الداعمة لتيار الحداثة أستاذنا الدكتور عبدالله الغذّامي، والذي أشاح بوجهه عن الحداثة فيما بعد، لكن ذلك لم ينفِ أبوّته لهذا التيار، ومعه عابد خزندار، وآخرون.

وكان من بين طلاب القسم؛ اسم ذائع، وعقليته متفتحة، ومواهبه متنوعة؛ وأعني به الابن السيد حسين بافقيه. فكنت إذا جلست إليه تحسبه كتبًا تنطق، ورؤىً نقدية عميقة ومتجذّرة، وهذا يقودني إلى القول بأن الحداثة التي كان ينتصر لها بافقيه آنذاك؛ هي حداثة متعمقة ومنفتحة على رموز التيار الإسلامي؛ من أمثال: أبي حامد الغزالي، في كتابه «المنقذ من الضلال»، والمحاسبي في كتابه «الرعاية لحقوق الله»، وكتاب «الحكم» لابن عطاء الله السكندري، وهذا الأخير لم يُدرس بعد في سياقه الحضاري والفكري.

وإذا كان بافقيه والخزندار يصدران عن ثقافة عميقة وواعية، كانت حداثة البعض الآخر لا تتجاوز القشور، والسطح الخارجي لهذه الموضة الأدبية، ولهذا اتّخذ بعض الحداثيين موقفًا من بافقيه لإنصافه بعض المحسوبين على التيار المحافظ. ولا ننسى أسماء عرفت بانحيازها للحداثة الإيجابية؛ من أمثال: حمزة شحاته، وحسين سرحان، ومحمّد حسن عوّاد، ومحمّد العلي، وعبدالله بن إدريس، ومحمّد العامر الرميح، وعبدالله نور، وسواهم.

وقد أثار الكثير من الباحثين والنقّاد موضوع الإبداع الحداثي لعدد من الأدباء؛ ومن أبرزهم الدكتور معجب الزّهراني، في كتابه السيري الموسوم «سيرة الوقت.. حكاية فرد، حكاية جيل». وقد أنصف عزيزنا بافقيه شخصيات عُرفت بتوجهها الحداثي العميق، مثل الدكتور نعيمان عثمان، والدكتورة سعاد المانع، والدكتور عبدالوهّاب الحكمي. وأورد بافقيه النقد الذي وجّهه الغذّامي للدكتور سعد البازعي فيما يتصل بموضوع البنيوية في كتابه «حكاية الحداثة»، حيث يذهب الغذامي إلى القول بأن «البازعي لم يعرف البنيوية ولا ما بعد البنيوية حين اختلف إلى الجامعات الأمريكية، وذهب وجاء، وهو لا يعرف عنهما شيئًا، وهو المختصّ في الأدب الإنجليزي»، وأرجع بافقيه هذه الكلمات التي تنطوي على نوع من الزَّراية» بالبازعي إلى «خصومة» مجهولة الأسباب، حيث يقول :».. وأغلب الظنّ أن هذا الحادث إنما يطوي في أعماقه «خصومة» بين أستاذ الأدب العربي وأستاذ الأدب الإنجليزي، فالبازعي كان قد أجلس نفسه -قبل عبدالعزيز حمّودة- مجلس الحَكَم الذي يصحّح لأستاذ اللغة العربية فهمه لتلك القضايا النقدية التي نشأت في الغرب ونَمت وماتت، وأستاذ اللغة العربية يأخذ على منافسه أنّه لم يعرف تلك المناهج حين قصد الغرب»..

هذا وجه من وجوه النظر البصير، والبحث الدقيق الذي اعتمده الابن الناقد بافقيه في كتابه الصادر حديثًا بعنوان «الحداثة الغائبة»، وفيه استعرض بواكير النقد الألسني في المملكة العربية السعودية، وقد طوّق عنقي بجميل إهدائه لي، فوجدت فيه ما توقعته من رصين العبارة، ومشرق الرؤية والفكرة، ولا أشك أن هذا الكتاب يمثل إضافة حقيقة للمكتبة السعودية، بخاصة وأنه يتطرق إلى موضوع ما زالت الآراء فيه ماضية بين أخذ ورد، بما يشكل حراكًا يمنح الساحة حيويتها المطلوبة.

وفي هذا السياق لابد أن نذكر أنه ليست هناك أقسام في الغرب متخصصة في دراسة البنيوية وسواها، إلا أن تكون دراستها جزءًا من دراسة التيارات أو النزعات الأدبية الأخرى، مثل الكلاسيكية، والرومانسية، والواقعية. وليس هناك ضجيج في الغرب حول هذه المذاهب الأدبية، كما حدث في البلاد العربية، ويقول الناقد جورج واطسن، في كتابه «الفكر الأدبي المعاصر»، ما ملخصه: إن النقد الإنجليزي الأمريكي لم يعتبر كمستعمرة من مستعمرات باريس؛ ولذلك لم يتحوّل الكثيرون من نقاد العالم المتحدث بالإنجليزية إلى البنيوية في الخمسينيات والستينيات الميلادية.

contact us
Nabd
App Store Play Store Huawei Store