Logo
صحيفة يومية تصدر عن مؤسسة المدينة للصحافة والنشر
واسيني الأعرج

مَيْ.. امرأة سوية بين ذكور مرضى!!

A A
ما عانته الأديبة العربية مي زيادة كان كبيرا وقاسيا، يرسم حالة رمزية عن وضعية المثقف العربي في عالم معقد وأحيانا معادي، لا يجد فيه المثقف مكانه بسهولة. هو في آخر سلم الترتيب الاجتماعي على الرغم مما يمنحه من روحه وصحته وحياته من أجل مجتمعه. تخيلوا امرأة واحدة في مجتمع ذكوري معتد بذكورة مهزوزة في أعماقها، لأنها لم تستطع لا أن تصد الاستعمار المتوحش، الذي لا يزال متغلغلا فيها وفي حياتها اليومية، ولا أن توقف مد التيارات المتطرفة التي تحتل دوما الواجهات الانتخابية، مما يعني أن هناك شيئًا ما لا يسير وفق منطق الحياة والسعادة والتطور.

هذا المجتمع أو شبيهه، الذي وجدت مي نفسها غارقة في تفاصيله على الرغم من رسالتها الثقافية النبيلة. وجدت في عصر كانت الذكورة الثقافية سيدته: طه حسين، صادق الرافعي، العقاد، سلامة موسى، ولي الدين يكن، وغيرهم كثير. يتناقشون في كبريات القضايا التي لم تحل في ذلك الوقت. الشرق والغرب ومعضلات التفوق والاستعمار. حرية المرأة. الحجاب ومشكلاته. التعددية الدينية في البلاد العربية. مسيحية بين أغلبية مسلمة. كل شيء يؤهل المكان ليكون مدارًا للنقاش المتعدد والمتميز. مجلس الثلاثاء لم يكن فقط مكانًا للنقاشات، ولكن أيضا لزحلقة الوريقات السرية لمي زيادة التي كان سحرها الثقافي مهيمنا على المكان. جاذبية نسوية غير مسبوقة. أغلبهم كانوا يتركون زوجاتهم في البيوت، ويأتون لحضور جلسات الثلاثاء. كانت مي اختبارا لقدرات المثقفين على تحمل امرأة تحتل صدارة المشهد الثقافي. المعارك الخارجية كانت ثقافية ومرتبطة بوضع في حالة تحول وتفكك لبنياته المتقادمة. بينما في الداخل السري لكبار العصر الذين اقتربوا منها كانت هناك صراعات كثيرة تفتقر إلى شجاعة المبارزة لدى الفرسان. لو كتب لمؤلفها السيري ليالي العصفورية أن يصلنا لاطلعنا على أسرار كثيرة، عن طه حسين الذي ظل يغازلها حتى لحظة دفنها في مستشفى الأمراض العقلية، فلم يرفع الأصبع الأصغر للدفاع عنها. صادق الرافعي وضع دموعه على ورقة وبعثها لها وظل يبكيها في قصائد ودواوين عدة، ويوم غضب منها لأنها لم توليه العناية الضرورية، خرج حاقدا ولم يعد لها، انتقلت فجأة من الحبيبة إلى العدوة. الذكورة التي تحيل الاختلاف إلى عداوة والعداوة إلى حقد. العقاد أعلن لها عن حبه على الرغم من غيرته القاتلة من جبران الذي لم يتحمل حتى مراسلاته لمي. اشترط عليها يوما يراها فيه خارج الثلاثاء فكان يوم الأحد. سلامة موسى وظفته في المحروسة عندما طرد من المستقبل، لكنه لم يجد ما يتهمها به في النهاية إلا الجنون ورسم صورة لها من أقبح الصور. ولي الدين يكن ظل يعاتبها في قصائده حتى موته لأنها لم تبادله نفس شعوره. الكثير منهم اقترح عليها الزواج لكنها رفضت. وبدل احترام قرارها راح كل واحد يرسم لها صورة سيئة على مقاسه، كوّنوا جيشا متحالفا ضدها مجمعا على جنونها، فلم يحاول ولا واحد منهم رفع الضيم والتهمة عنها، وتركوها تموت في صمت العصفورية، يومها أنهت كل علاقاتها بأصدقائها في مصر بشكل تراجيدي، وراحت تدافع عن حقها في العقل من خلال محاضرتها التي ألقتها في ويست هول بالجامعة الأمريكية بعد مغادرتها المستشفى فتأكد للجميع سلامة عقلها وقوتها الداخلية.

عندما عادت إلى مصر كانت تعرف أنها تفعل ذلك للموت هناك والدفن بجوار والديها. رفضت استقبال أي أحد من أصدقائها القدامى، باستثناء رجال الدين الذين منحوها فرصة للخلاص من الأثقال، التي كانت على عاتقها. حتى طه حسين عندما أراد زيارتها أجابته ببرودة: إذا أردت أن تراني عليك أن تتحول إلى قس.. بدون ذلك لا يمكن.. بقيت في البيت معزولة حتى لفظت أنفاسها الأخيرة في مستشفى المعادي.. الحداثة العربية خسرت مشروعها يوم خسرت مي زيادة ظلمًا.

contact us
Nabd
App Store Play Store Huawei Store