Logo
صحيفة يومية تصدر عن مؤسسة المدينة للصحافة والنشر
واسيني الأعرج

سلطان الرواية على النسيان

A A
عندما نتحدث عن رواياتنا التي تعبنا من أجل أن نجعل منها حدثًا غير عابر، ينشأ بجانب ذلك سؤال الموضوعية.. كيف نكتب عن أحاسيسنا دون الإغراق في ذات تحتاج لأن نراها بلا تضخمات مرضية.. أي أن ندرك أن القارئ ليس غبيًا يبلع كل ما يقدم له.. يمكننا أن نعلم القارئ بما لا يعرفه ولا يراه ببساطة، لأنه يهم دواخلنا وشعورنا الخفي، لكن دون التحول إلى من يصعد شجرة عالية وينظر إلى الناس من فوق ويحتقرهم لأنهم يبدون له كأنهم حشرات صغيرة، لهذا حساسية اللغة في الكتابة أمر جد مهم.

كان الصيف الأخير جميلًا بكل المقاييس على الصعيد الذاتي، فقد نجحت في رهان الانتهاء من كتابة رواية «الغجر يحبون أيضًا»، وطباعتها في وقت قياسي مع الصديق الناشر محمد بغدادي.. منذ اللحظة الأولى، احتواها الجمهور بمحبة كبيرة، عندما نشرت حلقات كثيرة منها في جريدة الجمهورية، في وهران حيث أحداث الرواية.. ثم في كتاب مع الحلقة الأخيرة في الجريدة.. كانت استراتيجية النشر التي انتهجها الأستاذ بغدادي صائبة.. بمجرد أن نزلت في منتدى الجريدة صباحًا، وفي حلبات وهران لمصارعة الثيران مساء، حتى نفذت أو كادت الطبعة الأولى، النسخ المتبقية تم توقيعها في مسارح وهران، عنابة، قسنطينة، الجزائر العاصمة، وفي سهرات الصابلات في خيمة الناشر، قبل أن يتم إصدار الطبعة الثانية في الصيف نفسه وتباع الرواية في معرض الجزائر في طبعتها الجديدة التي تم فيها تدارس كل نقائص الطبعة الأولى.

ولأن العرس كان كبيرًا، فلم أكن المندهش الأوحد من كرم مدينة وهران الثقافي، فقد كان أيضًا خوسي أورانو، أنجلينا أموندين، خمنيث، غارسيا، هيلينا، نور، مادري، إزميرالدا، وغيرهم من شخصيات الرواية، أكثر فرحًا مني، بل شعروا وكأنهم يستعيدون شيئًا كادوا يفقدونه، مدينتهم التي ولدوا فيها وتربوا في سواحلها وهواء بحرها الناعم، وجبالها، ومساجدها وكنائسها.. كان الموعد الوهراني جميلًا واللقاء استثنائيًا، غاصت صباحًا قاعة منتدى الجمهورية بجمهورها الجميل، جمهور كبير من القراء والطلبة والإعلاميين والأصدقاء، الكثير من القراء جاءوا من الولايات المجاورة، متحملين عناء السفر، بقوا واقفين من العاشرة صباحًا حتى الثانية بعد الزوال للحصول على نسخته موقعة، للأسف بعضهم لم يحصل عليها، لنفاذ النسخ المخصصة لفوروم الجمهورية، لكن ما يريحني هو أن الرواية خطت طريقها، القيمة الإعلامية ليست رفاهًا بالنسبة للكتابة، ولكنها ضرورة ملازمة للعملية الإبداعية.

في الجلسة المسائية، في ساحة الثيران أو كوريدا وهران كما تسمى، كان اللقاء مع المكان ومع الرواية، بطعم التاريخ والحياة الأخرى التي ردمها الجهل والإهمال تحت الأرض، فقد شم الحاضرون رائحة المكان، وشعروا بهزات مصارعة الثيران وصراخ العشرة آلاف حنجرة تنادي بحياة المتادور في المدرجات لمشاهدة المنازلة التي جاءت بهم إلى المكان، اندهش الحاضرون من المكان الأثري، المعلم الذي يفتح لأول مرة أمام الجمهور بعد استعادته ثقافيًا، بعد أن نسي طويلا أكثر من خمسين سنة، يعني نصف قرن.. طبعا، هذه الرياضة انتهت، ولم يعد للكوريدا مكان في الحياة الوهرانية، لكن مع قليل من الذكاء كان يمكن تحويل المَعْلم إلى مسرح مفتوح على الهواء تقام فيه السهرات الموسيقية ورياضات الملاكمة وغيرها فيحافظ على حياته ولا يموت.. لا يمكن لمكان أثري كحلبات وهران لمصارعة الثيران Les arènes d›Oran أن يموت داخل سوء التسيير والنسيان الغبي.. وكان الرهان الأكبر الذي نجحنا فيه، أن تقدم رواية: «الغجر يحبون... أيضًا»، في مكان الوقائع والأحداث، أي كوريدا وهران.. كم أن المبادرات الصغيرة تستطيع أن تهزم أثقال الرماد الذي ينام منذ عشرات السنين على ذاكرة المكان، فقد استطاع اللقاء أن يجعل من لحظة إطلاق كتاب، لحظة لاستعادة التاريخ الإسباني في وهران.. للرواية فضل في هذه اللحظة التاريخية الاستثنائية لأنها جعلت الناس يصدقون أن المكان الذي اختارته الرواية مسرحًا لأحداثها، حقيقي، وموجود وقد لامسوه بأيديهم وعيونهم وحواسهم.

contact us
Nabd
App Store Play Store Huawei Store