Logo
صحيفة يومية تصدر عن مؤسسة المدينة للصحافة والنشر
محسن علي السهيمي

أخلاقيات المنتِج والمنتَج

A A
تظل الجوائزُ بأشكالها المختلفة وتلقِّي الإبداع والقبولُ به حوافزَ مهمة من محفزات الإبداع لدى المبدع. غير أنه عند الحديث عن تقديم الجوائز للمبدع أو القبول بإبداعه تبرز لنا مسألة، وهي: هل يُشترط توافر الشرط الأخلاقي في المنتِج (المبدع) أو المُنتَج (الإبداع) أو فيهما كليهما ويغدو شرطًا لازمًا لاستحقاق الجائزة وتلقي الإبداع؟، هذه من المسائل الإشكالية التي كثر الحديث عنها والتجاذبات حولها، ولعلنا نبدأ بمسألة توافر الشرط الأخلاقي في المنتِج (المبدع)؛ فهناك من يرى أن الجوائز -أيًّا كانت صفتها- وتلقي الإبداع ينبغي أن يَجعلا من توافر الشرط الأخلاقي في المنتِج شرطًا أساسيًّا لا محيد عنه بغض النظر عن جودة المنتَج، وهذا الشرط له مؤيدوه وله معارضوه، ولكل منهما مبرراته، ويمكن الاستزادة في هذا الشأن من تغريدة للدكتور عبدالله السفياني على حسابه في تويتر. والحقيقة أننا عندما نشترط توافر الشرط الأخلاقي في المنتِج (المبدِع) فإننا بهذا نُضيق واسعًا، ونحرم البشرية من الكثير من الإبداعات التي اهتدت لها بعض العقول، وساهمت في التقدم الحضاري. توافر الشرط الأخلاقي لدى المنتِج يغدو أمرًا محمودًا ومرغَّبًا فيه، لكنَّ اشتراطه كأساس لمنحه الجائزة أو لتلقي إنتاجه والإفادة منه أرى أنه شرط لا وجاهة له؛ لأن أخلاق المنتِج أمر عائد إليه وحده، وضررها عليه، والمتلقون لإنتاجه لا تضيرهم رداءة أخلاقه أو انحطاطها. ولو أننا شددنا في مسألة أخلاق المنتِج فربما يمتد بنا التشدد لاشتراطات أخرى ويزداد معها حصار الإبداع ومصادرته؛ وعلى هذا فقد يأتي من يطالب بتوافر الشرط السياسي أو القومي أو الطائفي أو الجهوي، وكلها -من وجهة نظري- شروط تشكل حصارًا للإبداع، وتصبح بمثابة حرمان من الإفادة من إبداعات الفكر الإنساني. ما ينبغي التأكيد عليه هو أن الحُكم ينبغي أن يتوجه للمنتَج لا المنتِج، فالقيمة الفنية للمنتَج ومدى الإفادة منه والتزامه بالشرط الأخلاقي هي التي تحدد مدى استحقاق المنتِج للجائزة أو القبول بإنتاجه، ولو أنا جعلنا الشرط الأخلاقي حكَمًا في الأمر لما أمكننا الإفادة من معطيات الحضارة الحديثة والثورة التقنية المتعاظمة. ها هو العالم العربي يعيش عالة على منتجات الغرب مع ما قام به من مجازر وانتهاكات ومصادرة للحقوق ومظالم، ومع هذا لم تمنعنا من الإفادة من منتجاته، دون النظر للشرط الأخلاقي الذي ينتفي عنه في مواقف عديدة، ثم إنه ينبغي الأخذ في الاعتبار تعدد الأديان والثقافات، بالتالي صعوبة الاتفاق على الشرط الأخلاقي الذي تنتظم فيه تلك الجوائز أو تتحدد بواسطته معالم القبول بالمنتج والإفادة منه. في المقابل هناك من ينقل الشرط الأخلاقي من المنتِج (المبدع) ليسقطه على المُنتَج (الإبداع)، فيرى أنه ما لم يكن المنتَج ضمن دائرة المقبول أخلاقيًّا فلا عبرة به مهما كانت جودته وارتفعت فنيته، وبالتالي لا يستحق صاحبه الجائزة، وهنا أجدني أميل إلى هذا الشرط خلاف الشرط السابق؛ فتعاملي في هذه الحال سيكون مع المنتَج الذي يعنيني ويُوجه لي بالدرجة الأولى، فمن حقي أن أُطبق عليه معايير الشرط الأخلاقي التي أرتضيها، ومع أن المعايير تختلف باختلاف الديانات والثقافات إلا أن هناك قواسم مشتركة يتواطأ عليها الكثير وينبغي أن تؤخذ في الاعتبار عند منح الجوائز للمنتِج أو القبول بمنتجه. ولعل جهاد المجالي في كتابه (مفهوم الإبداع الفني في الشعر) قارب هذه المسألة حينما ذكر أن عبدالقاهر الجرجاني ذهب إلى أن «تذوقنا الشعر ينبغي ألا يخضع لسوء اعتقاد الشاعر، وهو في الوقت ذاته لا يقبل من الشاعر بأي شكل من الأشكال الإساءة إلى الدين وازدراء المعتقَد». وما يُقال عن الشعر يمكن إسقاطه على مجالات الإبداع على اختلاف أشكالها؛ فإذا كان الجرجاني يرى أن معتقد المبدع لا يعيب إبداعه فبالتأكيد أن ما دون المعتقد من أخلاقيات وما شابهها في المبدع نفسه أقل شأنًا وأجدر ألا يُلتفت إليها ما دام منتجه نافعًا للبشرية أو جيدًا فنيًّا، في حين أن سوء المنتَج أخلاقيًّا -ومن ذلك الإساءة للدين- هي ما ينبغي الالتفات إليه والوقوف عنده.
contact us
Nabd
App Store Play Store Huawei Store