Logo
صحيفة يومية تصدر عن مؤسسة المدينة للصحافة والنشر
واسيني الأعرج

نجم لا يأفل أبداً.. في ذكرى أحمد فؤاد نجم

A A
حتماً، لو بقي الشاعر الشعبي الكبير أحمد فؤاد نجم حيًّا إلى اليوم، لسَعِدَ بحِراك الجزائر ولبنان والعراق، وربَّما لاشترك في المسيرات، حتى ولو سيق إلى السجن. هو يدرك أن ثمن الحرية كان باهظًا، لكن لا خيار لتتغيَّر حالة بلدانٍ كثيرة من العالم العربي الصعبة. كان نجماً في سماء جافة. عمل طوال حياته على تحطيم النجومية التي تقتل الفن وتمس اليوم بجوهر الشعر الذي أصبح اليوم مهددا بالموت. الدعاية استوعبت الكثير من الشعراء وسرقت منهم الجوهر ولم تترك إلا الحالة الشكلية الخارجية. على العكس من أحمد فؤاد نجم الذي ارتبط بالمنظور الشعبي للفنان، أي الشخص الذي يُشبه الآخرين من البسطاء. فهو يملك الموهبة ليقول هموم الناس البسطاء، لا ليتفرَّد عليهم. هذا النوع لا يجود به التاريخ بسهولة. فهو الطفرة والاستثناء. وقد نحتاج إلى تاريخ آخر، وبشرية أخرى، وإنسانية غير التي نعيش في كنفها اليوم، للحصول على شبيه له.

أحمد فؤاد نجم أو بكل بساطة نجم، كان فرادة زمانه شعراً ولغةً ومضموناً وإنسانية. النجوم تختفي لكنها تعود لتملأ السماء ضوءاً، وكلما كان الليل دامساً ارتسمت في شكل شلالات من النور والحياة. لم يمت نجم إلا ليحيا فينا. فقد ظل وفيًّا لشعره وكتاباته حتى اللحظة الأخيرة، ولم تثنه لا أطماع الحياة ولا أموالها.

يعيدنا بقوة حضوره إلى الشعراء التروبادور. ترك كل الرخاء الذي كان يمكن أن يغرق فيه لو اختار مسلكاً غير الذي اختاره كما يفعل الكثير من الشعراء اليوم، وانتمى للشعب البسيط، فارتدى بساطته وغناه مختزلاً السجون، ومشقة الحياة، وسياسات الحُكَّام، على مدار حياته كلها. من جمال عبدالناصر، في عز صعوده عندما وضع في سلة واحدة الإخوان واليساريين، إلى أنور السادات الذي اعتقل كل الأصوات التي قاومت سياسته الانفتاحية، إلى حسني مبارك الذي دخل بمصر في اقتصاد التوحش، والذي أفقر الفقير وأغنى الغني، إلى الانتفاضات الشعبية من خلال ما سُمِّي بالربيع العربي، ومتغيراتها التي جاءت بزمنٍ آخر.

ظل عصفوراً يصدح طليقاً يُدافع عن قِيَم الحرية من خلال قصائده الشعبية التي ظل الناس ينشدونها معه منذ السبعينيات، في الملاعب الواسعة ودور الثقافة والساحات العامة، وفي الحارات الشعبية، بلغة يفهمها المثقف والإنسان البسيط، الجامعي والحمال. المنفي والمهموم. كان من القلائل الذين حازوا على حب غالبية المجتمع. التقيتُ به في العديد من المرات، كانت آخرها سنة قبل وفاته. كان يستبشر خيراً بالانتفاضات، لكن خوفاً مضمراً كان يسكنه. قال لي ونحن في حارته الشعبية الأثيرة في القاهرة: «انتفاضات عظيمة يا واسيني، وقوية، ولأنها كذلك، أخاف أن يلطشوها منَّا. سماسرة الثورات سيعملون على إفراغها من الداخل».

ذكَّرني بالجزائر التي أقام فيها سنوات عديدة، وتزوَّج فيه بالفنانة الكوميدية المرحومة صونيا. التقينا في جلساتٍ كثيرة في بيته للصلح بينه وبين الشيخ إمام، لكن سهم الفرقة كان قد اخترقهما معاً في العمق وبعنف، وانتهى الثنائي العظيم الذي ملأ زمانه. لقد عرف نجم كيف يكون مثقفاً عضوياً من طراز جديد بلا انتساب إلى فئةٍ سياسية او أيديولوجية، ولكن إلى خيار الحب والحرية. خرج مثلما جاء إلى هذه الدنيا، بسيطاً وحكيماً، بهندامه الشعبي الذي يُشبه لباس المصريين البسطاء. ظل مشعاً ومدافعاً عن مصر أخرى، استمرت متخفِّية في كلماته وشعره: مصر العدالة والنور، والحب والحداثة، والخير والديمقراطية. ودُفِنَ في مقابر البسطاء الذين أحبّوه وانتموا إلى قلبه كما انتمى هو إلى آلامهم ويومياتهم الصعبة والقاسية. هذه الخصية المتفردة هي التي جعلت منه أيقونة متعالية على الظلم والحُكَّام، لتنام في عمق تاريخ البشرية المضاء بنور نجمه الذي لا يخفت أبدا.

contact us
Nabd
App Store Play Store Huawei Store