Logo
صحيفة يومية تصدر عن مؤسسة المدينة للصحافة والنشر
د. أيمن بدر كريّم

مُعضلة التخلّف الفكري

A A
لطالما أثارتْ اهتمامي قضية تخلّف فكر عددٍ من المُجتمعات العربية والمُسلمة، ووقوف أكثرها عند حدود تراثها القديم، دون الاستفادة منه في تحدّيات الحاضر واستشراف المُستقبل، فكان أن تمّ إهدار عقود من الزمن في مُحاولات اجترار الماضي التليد والبكاء على الأطلال، نتيجة شّللٍ فكري أصاب العقلية العربية الحديثة، والظنّ أن التجربةَ الإنسانية المعرِفية والحضارية الثقافية قد انتهت منذ أمد طويل، وليس في وسع المُسلم إلا التقليد الأعمى لأسلافه، بغض النظر عن مستجدّات الفكر الإنساني واختلافِ الظروف الاجتماعيةِ والعلمية والثقافية والسياسية.

وفي خضمّ الفهم المُنغلق لتعاليم الدين ومقاصده، يبدو أن التراث الفكري الإسلامي وقع -كما وقع غيره- في فخّ تحريفِ وتشويه من حاولوا إخفاء حقيقة المُساواة بين الناس، لتأصيلِ تقسيمهم إلى طبقاتٍ وفئات، بعضهم لهم السُّلْطة والأمر والنهي، وبعضهم يعدّون أنفسهم حرّاس الدّين ومُحتكري الحقيقة، وآخرون عوام يتحتّم عليهم الخضوع والقبول والتسليم، فكان أن تكرّس التخويف من التفكير الحر، واستنباط الحلول لمشكلات العصور اللاحقة من سيرة سلفٍ صالحٍ عدّها كثيرون موروثاً مُقدّسا لا يعتريه الخطأ، واعتبار حياة السابقين قمةً مثاليةً لتجربة إنسانية لا يستطيعُ اللاحقون الوصولَ إليها، مما تسبّب فـي إعاقة تقدّم المسلم المعاصر نحو المستقبل على ضوء التراكم المعرِفي والتطوّر الطبيعي للتاريخ والمجتمع، وجمود العقل العربي وإصابته بالإحباط والوهن ورجوعه إلى الوراء، عوضًا عن التقدّم للأمام كما تقتضي سيرورة الإنسان.

وكانتْ من نتائج هذا الجمود الفكري، جهلٌ مركّب، وحمّى اتّباع مفاهيم معينة دون استيعابها أو الاستعداد لمناقشتها، خشية الخروج من عباءة الجماعة وفكر القطيع، وفوق ذلك، اعتقادٌ جازمٌ للفرد واطمئنانه العجيب بامتلاك الحق والحقيقة دون حاجةٍ للبحث والشكّ والتساؤل، وجهل الإنسان بكينونته وغيابِ تقديره لذاته التي خاطبها القرآنُ الكريم مباشرةً، وحمّلها مسؤولية البحث والاطلاع والتفكّر، ممّا سهّل مُهمّة الآخرين لقيادته، واختلاط شخصيته بمجموعاتٍ غير مُتجانسة تتجاهل قيمته.

ولعلّ النضج الفكري للإنسان لا يبدأ إلا حين تُصبح الشُّكوك لديه أكثر من القناعات، والتساؤلات عنده أكثر من الإجابات، مُعتبراً المُسلّماتَ الثابتةَ معدودةً محدودة، وأن غيرها قابلٌ للمراجعةِ والنقد والتفنيد، والأخذِ والرد دون قُدسيّة، إذ لا يقتربُ من الحقيقة إلا المُتشكّك غير المطمئن بالضرورة لكلّ ما يعرف، بل يبحثُ عن الإجابات المُجرّدة ذات الطابع المُحايد من دون حُكم مُسبَق، وهو أمرٌ ليس باليسير.

يقولُ الدكتور مصطفى حجازي في كتابه (التخلّف الاجتماعي): «الإنسان المُتخلف كالمُجتمع المتخلّف، سَلَفيٌ أساساً، يتوجّه نحو الماضي ويتمسّك بالتقاليد والأعراف، بدل التصدّي للحاضر والتطلّع للمُستقبل».

contact us
Nabd
App Store Play Store Huawei Store