Logo
صحيفة يومية تصدر عن مؤسسة المدينة للصحافة والنشر
محمد بشير كردي

ليس للإنسان إلا ما سعى

A A
ما إن اقترب موعد يوم رحيل عام 2019 بكل ما له وما عليه من تركات مزَّقت لحمة العديد من بلداننا العربية وسداها وما حولها فاسحًا المجال ليحلَّ محلَّه العام 2020، حتى نشط قرَّاء البخت واستطلاع المستقبل في الدلو بدلائهم كخبراء مكشوف عنهم الغطاء، ويرون القادم من أحداث في بلداننا العربية، وكذا في بقية دول العالم الذي نحن منه، ويبدو أن مهنة الخبير والمحلِّل في مجالات السياسة والاقتصاد والحرب والسلام، وحتَّى في حياة الأفراد وما ينتظرهم من رزق وفرج، أو من ضيق وكدر هي من الاختصاصات المفضلة عند العامة والخاصَّة على حد سواء، وتتناقلها وسائل التواصل الاجتماعي بما فيها الفضائيات، مؤيدين صحة توقُّعات قرَّاء الطالع والمستقبل.. ومردِّدين ما يروى عن العديد من زعماء العالم وزوجاتهم أنَّهم لا يباشرون أعمالهم ويتَّخذون قرارتهم المصيرية إلَّا بعد مراجعة قارئ الطالع ليخبرهم بما ينتظرهم من خير أو شرٍّ في يومهم، لسلك طريق السلامة وتجنُّب طريق الندامة.. بعض هذا التنجيم قد يوافق أقوال المنجِّمين وقرَّاء الطالع، مع أنَّهم كاذبون...

تتردَّد جملة «كذب المنجِّمون ولو صدقوا» على أنَّها من التراث، ومع ذلك، يبدو أنَّ عدوى الاهتمام بمعرفة ما يحمله العام الجديد من مفاجآت وحوادث انتقلت إلى مجتمعاتنا العربية والإسلامية التي تعاني منذ سنوات من الفوضى المهلكة، بداية من تدمير المخربين لاقتصاد بلادهم، وما نجم عنه من فساد وهدر للمال العام وزرع لبذور الطائفيَّة والعنصريَّة.. حتى إذا ما أينعت ثمار الفوضى «الخلَّاقة»، عمَّ القتل والنهب والدمار في بلدان كانت حتى الأمس القريب مثلًا يضرب للتعايش بين أطياف المجتمع الواحد كافَّة، فسرعان ما أصبحت ميادين قتال ودمار، ونزوح غالبية سكَّانها إلى بلدان قوانينها تراعي حقوق الإنسان وكرامته.. أمَّا من آثروا البقاء في ديارهم، فهم ما بين فئات متنفِّذة متسلِّطة تسبِّح بحمد الحاكم على قدر ما يُتيح لها من نفوذ وتسلُّط ونهب للمال العام والخاص، وبين أغلبيَّة تعاني من تردِّي الأحوال الأمنيَّة والمعيشيَّة وعدم القدرة على تأمين الأرزاق الضروريَّة للبقاء على قيد الحياة.. ولضيق ما في أياديهم من مال، تجدهم متعلِّقين بحبال الوهم والدجل.. يتابعون باهتمام ما تنشره وسائل التواصل الاجتماعي من رؤى وتحاليل المنجِّمين وقرَّاء الطالع، متناسين قوله تعالى في محكم التنزيل لنبيِّنا الكريم عليه الصلاة والسلام في سورة (النَّمل): ﴿قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ﴾، وقوله تعالى في سورة الأعراف: ﴿قُلَ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ﴾.

التعلُّق بأوهام وبما يصدر عن خبراء الدجل والتنجيم لما هو قادم خلال السنة الجديدة، ظاهرة غير صحيَّة تعيق خلاص الشعوب المغلوبة على أمرها ممَّا ترزح تحته، ويحول بينها وبين استعادة قدرتها على التخلُّص من الوهم، والوقوف في وجه تسونامي الفساد والظلم والاضطهاد

، مصداقًا لقوله تعالى في سورة (التوبة): ﴿وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ، وَسَتُرَدُّونَ إِلَىٰ عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ﴾.. وحذَّرنا المولى عزَّ وجلَّ من عمل الشيطان، والأخذ بإملاءات الأنصاب والأزلام التي كانت متَّبعة في الجاهليَّة، وتماثلها اليوم تنبُّؤات قرَّاء المستقبل..

الأنصاب والأزلام -كما هو معروف- هي سهام صغيرة كان الكهنة في زمن الجاهليَّة يكتبون على بعضها (أفعل)، وعلى بعضها (لا تفعل) ويضعونها في كيس، فإذا أراد المرء القيام لعمل ما، أدخل يده في الكيس لإخراج واحد منها.. فإذا وجد المكتوب عليها «افعل»، مضى لحاجته.. وإذا وجد العكس، مكث ولم يغادر.. والأزلام إلى حدٍّ ما تماثل قراءة الطالع لمعرفة القادم من الأيَّام.. وسبق لرسولنا الكريم في حديث شريف يُروى عنه: «يَا غُلَامُ، إِنِّي أُعَلِّمُكَ كَلِمَاتٍ، احْفَظْ اللَّهَ يَحْفَظْكَ، احْفَظْ اللَّهَ تَجِدْهُ تُجَاهَكَ، إِذَا سَأَلْتَ فَاسْأَلْ اللَّهَ، وَإِذَا اسْتَعَنْتَ فَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ، وَاعْلَمْ أَنَّ الْأُمَّةَ لَوْ اجْتَمَعَتْ عَلَى أَنْ يَنْفَعُوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَنْفَعُوكَ إِلَّا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ لَكَ، وَلَوْ اجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ يَضُرُّوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَضُرُّوكَ إِلَّا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ عَلَيْكَ، رُفِعَتْ الْأَقْلَامُ وَجَفَّتْ الصُّحُفُ».

contact us
Nabd
App Store Play Store Huawei Store