Logo
صحيفة يومية تصدر عن مؤسسة المدينة للصحافة والنشر
محسن علي السهيمي

التطرف الثقافي!

A A
لم يعد مستغرَبًا اليوم أن نسمع عن التطرف الدِّيني، أو التطرف الليبرالي، أو التطرف الفكري بعمومه، في أي صورة وعلى أي كيفية؛ فهذه النماذج اكتسبت صفة التطرف نتيجةَ تجاوزها حد الاعتدال والوسطية في أفكارها حتى وصل الأمر إلى سلوكياتها وممارساتها. ولتحرير مفهوم التطرف الذي أعنيه في مقالي فالمقصود به الغلو ومجاوزة حد الاعتدال والوسطية على مستوى (الأفكار والأحكام والنظر للآخر المختلف)، وليس ما قد يتبادر إلى أذهان البعض بأنه التطرف المُفضي للإرهاب والعنف. ما استجد مؤخرًا في مفهوم التطرف هو ما تفتَّقتْ عنه أذهان البعض حينما ألقى تهمة التطرف على الحريصِين على اللغة العربية الفصحى، الداعِين لإعزازها والافتخار بها، المنادِين بضرورة حضورها في مكتوبنا ومنطوقنا، وفي محاضنها الأصيلة وقلاعها الحصينة، حتى ولو في صورتها البسيطة الميسرة. هذا التحول الخطير في مفهوم التطرف، والجنوح به عن مساره يجعلنا نتساءل عن الخطيئة الكبرى التي ارتكبها المثقفون ممن يحمل هم اللغة العربية ويُنافح عنها حتى أودت بهم خطيئتهم تلك لقفص الاتهام، وهو ما جعل البعض يَصمهم بـ(المتطرفِين ثقافيًّا). لعل ما استدعى هذا الوصم بحق المثقفِين -وكل غيور على اللغة الفصحى ومنافح عنها- هو تمسكهم بها، وحرصهم عليها، ودفاعهم عنها، ووقوفهم في وجه الدعوات التي ما فتئت تتكرر مطالبةً بإفساح المجال أمام اللهجات العامية (نثرًا وشعرًا) لتزاحم اللغة الفصحى وتقف معها على قدم المساواة -وربما أكثر- في المحافل والأمسيات النثرية والشعرية، وفي المؤسسات الثقافية -الحكومية منها والأهلية- التي نصت اللوائح والأنظمة المشرِّعة لتلك المؤسسات على تقديمها فعالياتها باللغة العربية الفصحى. التطرف الثقافي كما يعرفه الدكتور عادل العلي في مقال له بصحيفة الجزيرة هو «أن يدَّعي أحد المثقفِين أنه على صواب؛ والآخرِين على خطأ»، غير أن المتبنِّين لمفهوم التطرف الثقافي لا يعنيهم هذا التعريف وهذا النوع من التطرف؛ كونه لا يتقاطع مع قضيتهم، ما يعنيهم هو دفاع المثقفِين عن اللغة الفصحى ومطالبتهم بحضورها في محاضنها وقلاعها، وهو الأمر الذي يغيظ هؤلاء المتبنِّين للهجات المحلية ما يجعلهم ينزعون لهذا المفهوم فيتخذونه وسيلةَ ترهيبٍ تمكنهم من بلوغ مرادهم. مشكلة المتبنِّين لهذا المفهوم (مفهوم التطرف الثقافي) أنهم وقعوا في شَرَك العامية ولم يستطيعوا الفكاك منه، في الوقت نفسه ليست لديهم الأدوات التي تمكنهم من إجادة اللغة الفصحى، وهم يعلمون أن اعتلاءهم منابر الفصحى في محاضنها وقلاعها الحكومية -وحتى الأهلية- يتطلب منهم إجادتها، وكونهم لا يجيدونها عمدوا لإطلاق مفهوم (التطرف الثقافي) نكاية بمن يحول دونهم ودون وصولهم لتلك المنابر. ما أريد التأكيد عليه هو أن الداعِين لاستخدام اللغة الفصحى المنافحِين عنها ليس هدفهم أن يتحدث الجميع أو يكتبوا بلغة متقعرة تستعصي على الفهم والإدراك، وإنما غايتهم اللغة الفصحى الميسرة التي تحافظ على قواعد اللغة ويُفهم مقصودها. ومع كل هذه التنازلات المقدمة إلا أن سهام التصنيف نالتهم حتى عُدُّوا في نظر متبني اللهجات العامية متطرفِين ثقافيًّا، لا لشيء إلا لأنهم تمسكوا بلغتهم الفصحى الميسرة التي تحفظ هويتهم القومية، وتمثل الوعاء الحاضن لفكرهم، ونبذوا ما سواها من اللهجات العامية التي تضرب في صميم الوحدة الوطنية والهوية القومية. وهؤلاء الواصمون لا يختلفون عن الذين وصموا الإنجليزية بأنها (لغة الشيطان) عندما عجزوا عن تعلُّمِها، ولذا فليَعلم المنافحون أن سهام التصنيف وعبارات الوصم بحقهم لن تتوقف حتى يرفعوا راية التسليم. ومما يؤسَف له ما لوحظ -خلال السنوات القليلة الماضية- مِن أن بعض مَن تفيَّأ ظلال اللغة الفصحى وترقى مدارجها وكسب رزقه ومكانته ووجاهته من تخصصه فيها أذعن وأفسح المجال للهجة العامية في منابر اللغة الفصحى، ربما حتى لا يوصم بـ(التطرف الثقافي)، مع أنه مؤتمَن على التقيد بما نصت عليه لائحة المؤسسة التي يقوم بأمرها.
contact us
Nabd
App Store Play Store Huawei Store