Logo
صحيفة يومية تصدر عن مؤسسة المدينة للصحافة والنشر
عاصم حمدان

أصوات من منائر المسجد النّبويّ الشّريف

رؤية فكرية

A A
أعتذر للقارئ الكريم عن نسيان أسماء بعض الشخصيّات، وكذلك بعض الأحداث التي تسعى هذه الحلقات إلى إيرادها، بما يدخل في باب توثيق شيء من التاريخ الشّفهي لمدينة الحبيب المصطفى، صلّى الله عليه وسلّم، ضاربًا مثلاً بعدم ذكر مجلس فضيلة الشيخ حسن الشّاعر، والذي كان يؤمّه عدد من رجالات العلم في مُختلف التخصّصات. وللتاريخ؛ يمكن القول بأنّ معظم أئمة المسجد النّبويّ الشّريف، وعلى مدى أكثر من خمسين عامًا جوّدوا القرآن الكريم على يديه، ويأتي في مقدّمتهم فضيلة الشيخ عبدالعزيز بن صالح، إمام وخطيب المسجد النّبويّ الشّريف. وكان ابن صالح من تواضعه يزور الشيخ الشاعر، ويسأل عن أحواله.

وفي مجلسه -أي الشيخ الشاعر- رأيت للمرّة الأولى صهره السيد الفاضل والفقيه الشّافعي السيد محمّد بن صالح المحضار -رحمه الله-، وفي نفس المناسبة استمعت للشيخ محمّد النجّار، وهو من حفظة كتاب الله الكريم، وصاحب صوت شجيٍّ، ويختار من قصائد المديح النّبويّ أجودها، ومن تلك القصائد قصيدة الشّاعر سعدالدين برّادة، التي أنشأها متشوّقًا لبلد المصطفى، صلّى الله عليه وسلّم، وهو بعيد عنها؛ حيث هُجّر مع أعداد كبيرة من أهالي المدينة المنوّرة بسبب أحداث ما يُسمّى بـ»سفر برلك»، وأعتقد أنّ الابن الدكتور سعيد طوله قد أثبت هذه القصيدة في جملة ما أثبت من شعر الحنين والوجد والشكوى في كتابه القيّم عن هذه الحادثة التراجيدية، والتي يتحمّل فخري باشا وزر الإقدام عليها، غير عابئ بحرمة المدينة المنوّرة الطّاهرة.. يقول برّادة في مطلع قصيدته:

عن درّ مبسمها عن دمع أجفاني

عن الشقيق كذا عن خدّها القاني

إلى أن يقول:

يا حاديَ العيس قف هذا البقيع وذا

سلعٌ فإنّ به روحي وريحاني

هذي الربوع التي أضحى الغزال بها

يرعى القلوبَ وأرعاهُ ويرعاني

عاث الزّمانُ بنا رغمًا ففرّقنا

يا للرجالِ لهذا العائثِ الجاني

ما كنت أحسبُ أنّ الدّهرَ يصدعنا

بالبعدِ حتى سقانا كأسَ هجرانِ

أوّاه أوّاه من حرّ الفراقِ وما

يبقى من الوجد في أحشاء ولهانِ

لا تنكروا جزعي لم يبقَ لي جَلَدٌ

على النّوى فجهول الحبِّ يلحاني

ولو رأى عاذلي مَن قد شُغِفتُ به

لبات يأمر فيما ظلّ ينهاني

وقد استمعت في السياق نفسه للراوية المكّي عمر عيوني؛ حيث ذكر أنّه كان مشاهدًا لحدث قدوم الرّكب المكّي، وكان يضع رحاله عند باب السّلام، وكان منشد الرّكب في تلك الواقعة أو المناسبة جسّيس يُدعى «كردوس»، وكان صاحب راحلة قويّة؛ فبدأ ينشد إحدى قصائد الشاعر والمادح المعروف، الإمام النّبهاني، فلمّا انتهى من إنشادها؛ فإذا برجل من غير أهل المدينة المنوّرة يطلب منه إعادة إنشادها، ففعل، وردّدها في ذلك المشهد النّبويّ الشّريف ثلاث مرّات، وعندما انتهى تقدّم هذا الرّجل، وكانت تبدو عليه سيماء العلم والوقار، وسأل المنشد «كردوس»: أتعرف منشأ هذه القصيدة؟ فأجاب: نعم؛ الإمام النّبهاني. فوضع الرجل يده وأجهش بالبكاء قائلاً: أنا الإمام النّبهاني..! ثمّ أخرج من جيب ثوبه جنيهات من الذهب ونقدها إياه.

وأخبرني الأستاذ والراوية والحافظ لكتاب الله والمؤذّن بالمسجد النّبويّ الشّريف الأستاذ عبدالستّار بخاري أنّه كان منشد الرّكب المدني، وكان ذلك قبل الحكم السّعودي الزّاهر، فعندما اجتاز الرّكب شارع باب العنبرية، أنشد الريّس عبدالستّار قصيدة في التشوّق للمدينة المنوّرة، وقد تأثّر عند سماعها حاكم المدينة المنوّرة آنذاك، الشريف علي، فسأل من حوله عن المنشد، فقيل له إنّه الريّس عبدالستّار.

وتشاء القدرة الإلهيّة أن ينزح عدد كبير من أهل المدينة المنوّرة في سفر برلك، وكان بينهم عدد من مؤذني المسجد النّبويّ الشّريف، وأدّى ذلك إلى نقص في عدد المؤذّنين، وخصوصًا أنّ الأذان كان يرفع من المنائر الخمسة، فسأل الشّريف علي عن أصوات نديّة تقوم بأداء واجب الإيمان، فذُكر له اسما حسين وعبدالستّار بخاري، فسمح بصعودهما للأذان في المسجد النّبويّ الشّريف. ولم تقتصر مسيرة الراحلين على أداء الأذان؛ بل تعدّته إلى الإنشاد في مجالس السيرة النّبويّة الشّريفة وسواها. وعدد من الجيل الصّاعد من المؤذّنين يقتفون أثر حسين وعبدالستّار بخاري، وآخرون يقتفون أثر المؤذّن عبدالعزيز حسين بخاري. وتعدّى أثر عبدالعزيز فضاء المدينة المنوّرة ليسبح صوته محفوفًا ببركة المدينة الطّاهرة في فضاء عدد كبير من دول العالم العربي والإسلامي. وللتاريخ فإن القاعدة التي كان يؤذّن بها عبدالعزيز -رحمه الله- وأخوه عصام، هي أقرب إلى قاعدة الريّس محمود محمّد نعمان الحنبلي، والذي اعترف لي الأستاذ عبدالستّار، وكنت ملازمًا له، بأنّ صعود النعمان قد أحرج العديد من الأصوات الأخرى.

contact us
Nabd
App Store Play Store Huawei Store