Logo
صحيفة يومية تصدر عن مؤسسة المدينة للصحافة والنشر
محسن علي السهيمي

الكواكبي.. تنويري أم حزبي؟!

A A
لا شيء يبعث على العجب أكثر من تكييف بعض مُدَّعي التنوير العرب لمفهوم التنوير الأوروبي بحسب الظروف والمصالح، دون اعتبار للمبادئ الأساسية التي قام عليها، ثُم تراهم يدَّعون تمثيله، في حين هم يمثلون الازدواجية التي تشي باضطراب المفاهيم لديهم.. من تلك الازدواجية التي يعيشها هؤلاء أنهم يَرون مجردَ الرجوع للتراثَيْن العربي والإسلامي (رجعيَّة)، لكنهم في الوقت نفسه ينسون أنهم لا ينفكون عن المرابطة على عتبة التنوير الأوروبي (الذي أصبح بدوره تراثًا)، بل يعودون أبعد من ذلك؛ إلى التراث الإغريقي وما قبلَه.. ومنها، أن أكفَّهم لا تني عن التصفيق، وألسنتهم لا تفتر عن الثناء على من يقف بوجه الاستبداد -ما دام أولئك الواقفون بوجه الاستبداد بعيدِين عنهم زمكانيًّا- ويرونهم تنويريين أحرارًا، لكن لو جَمع أولئك التنويريون الأحرار -كما يصفهم بعض مدَّعي التنوير العرب- بهؤلاء المدَّعِين زمان أو مكان هنا يتحول أولئك التنويريون الأحرار في نظر هؤلاء المدَّعِين إلى ظلاميين ومتطرفِين.. ومنها، أنهم -على مستوى الرموز التنويرية العربية- دائمًا ما يضعون جمال الدين الأفغاني في مقدمة رواد النهضة العربية وأحد أبرز التنويريين العرب، في حين ذكر توفيق السديري في كتابه (تشخيص الصحوة.. تحليل وذكريات) أنه «يمكن أن نسلسل تاريخ التفسير المصلحي السياسي للدين في هذا العصر من بذرته الأولى لدى جمال الدين الأفغاني»، مؤكِّدًا على أن هذا الفكر لم يجد طريقه إلا عندما ظهر حسن البنا ونقل مفاهيم الأفغاني الفكرية إلى حركة شبابية وشعبية واسعة.. بل قال عنه محمد الجابري في كتابه (المشروع النهضوي العربي) إن إستراتيجية التوظيف السياسي للدين التي سلكها الأفغاني «هي نفسها الإستراتيجية التي يتبناها ما يسمى اليوم بالإسلام السياسي».

أما المثال الأوضح لازدواجية مدَّعي التنوير العرب فيتمثل في إشادتهم بعبدالرحمن الكواكبي وتنصيبه رمزًا عربيًّا تنويريًّا بارزًا، وأنا هنا لست بصدد محاكمته وأفكاره قدر تساؤلي عن احتفاء مدعي التنوير العرب بأفكاره وخاصة المبثوثة في كتابه (طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد) وغيره التي لا تختلف كثيرًا عما تُنادي به بعض الأحزاب المتطرفة اليوم؛ فالمبررات واحدة وإن تنوعت طريقة عرضها؛ فالخروج على الحكومات المستبدة هدف أساس، وإقامة الخلافة غاية لا محيد عنها؛ ها هو يقول «إن المستبِد يخاف من هؤلاء العلماء العاملِين الراشدِين المرشدِين، لا من العلماء المنافقِين..»، ومثل هذا الكلام تردده كثيرًا بعض الأحزاب اليوم، وهو الكلام الذي يؤكد التنويريون العرب على أنه لا يصدر إلا من فكر متطرف.. وها هو يستدل ببيت المَعري:

إذا لم تقم بالعدل فينا حكومةٌ

فنحـن على تغييــرها قُـدَراءُ

ويعقب عليه بقوله «وهكذا ينقذف فكر الأمة في واد ظاهر الحكمة يسير كالسيل، لا يرجع حتى يبلغ منتهاه»، ومثل هذا الكلام يصنفه التنويريون العرب تحت مسمى الإسلام السياسي.. ولو تتبعنا ما في كتاب الكواكبي هذا وغيره لوجدنا فيها ما يتقاطع مع بعض الأفكار الحزبية اليوم، ولذا يأتي السؤال عن سر احتفاء هؤلاء بالكواكبي -وقبلَه الأفغاني وغيره- وجعله رمزًا عربيًّا تنويريًّا نهضويًّا، مع أن بعض أفكاره المطروحة لا تختلف عن أفكار الأحزاب المتطرفة؟! لا يمكن تفسير هذا السلوك إلا بأن هؤلاء المدَّعِين يُؤيدون في قرارة أنفسهم أفكار أولئك الذين يصفونهم بالتنويريين، لكنهم لا يستطيعون المجاهرة بذلك، فتراهم يحتفون بمن يتبنى تلك الأفكار مادام بعيدًا عنهم (زمكانيًّا)، ويرونه رمزًا تنويريًّا، ولو كان حيًّا بينهم لعدوه حزبيًّا ظلاميًّا متطرفًا في تناقض عجيب، مع أن الرمز هو هو والأفكار هي هي، فما الذي تغير؟ وما الذي يجعل هؤلاء يؤمنون بمبادئ التنوير (كلها) إذا كانت خارج حماهم، ويكفرون (ببعضها) إذا كانت داخل حماهم؟ وعلى هذا رأينا كيف أصبح الكواكبي وفق منظورهم (تنويريًّا) في عصره (حزبيًّا) في عصرهم.. فمن يفك لغز هذه المعادلة؟!

contact us
Nabd
App Store Play Store Huawei Store