Logo
صحيفة يومية تصدر عن مؤسسة المدينة للصحافة والنشر
د. علي آل شرمة

الدبلوماسية الشعبية تخاطب الوجدان والقلوب

A A
رغم انشغاله بجائحة كورونا، التي لا زالت تحصد أرواح العشرات وتصيب عشرات الألوف يوميًا في الولايات المتحدة، لم ينس المجتمع الأميركي إحياء ذكرى الشابين السعوديين ذيب وجاسر آل راكة اليامي، اللذان توفيا أواخر يونيو من العام قبل الماضي خلال محاولتهما إنقاذ طفلين أميركيين من الغرق في نهر تشكوبي في ولاية ماساتشوستس، في موقف بطولي أثار إعجاب الجميع، وأعاد رسم صورة العربي المسلم في أذهان كثيرين ممن لم يعرفوا عنا سوى الانطباع السالب، نتيجة لما تحاول بعض الدوائر المشبوهة ترسيخه في الأذهان.

مشهد رحيل الشابين كان في غاية التأثير، وكأنه مستوحى من إحدى القصص الخيالية، وبدأ عندما شاهد ذيب وجاسر، طالبا الهندسة المدنية، طفلان يصارعان الغرق بعدما وقفت والدتهما عاجزة، وفشل عدد من الموجودين في إنقاذهما.. أمام صرخات الأم لم يتردد الشابان السعوديان في القفز إلى النهر ومصارعة التيار المائي القوي، وبعد أن استطاعا إنقاذ الطفلين، سحب التيار أحد الشابين فهرع الآخر لمساعدة ابن عمه، لكن الأمواج المتلاطمة جرفتهما معًا وغابا عن الأنظار حتى عثر على جثتيهما بعد عدة أيام.

خلال الأسبوع الماضي تحدثت كثير من الصحف الأميركية والغربية عن الشابين السعوديين، وأفردت لهما مساحات في صفحاتها، كما خصّصت جامعتا «ويسترن نيو أنجلاند» و»هاتفورد» يومًا كاملا للحديث عنهما، أشار فيه رئيسا الجامعتين لذلك الفعل النبيل الذي قام به الشابان، وعما يملكانه من أخلاق ومروءة لم تجعلهما يترددان في المخاطرة بحياتهما لأجل مد يد العون والمساعدة لمن هم في حاجة إليها.. وشارك طلاب الجامعتين في التنويه لما يملكه جاسر وذيب من أخلاق فاضلة وما كانا يتمتعان به من علاقات واسعة مع زملائهم. كما أكدت وزارة الخارجية الأميركية في بيان رسمي أن بطولة الطالبين السعوديين تُجسد خير مثالٍ للطلبة القادمين من الخارج، والذين يثرون المجتمعات المحلية في جميع أنحاء الولايات المتحدة.

لم يقف رد المجتمع الأميركي عند هذا الحد، بل إن الرئيس الأميركي دونالد ترمب أرسل برقيتي عزاء إلى عائلتي الشهيدين في المملكة، أكد فيهما أن ما قاما به من تعريض حياتهما للخطر «يمثل شجاعة هائلة وبطولةً تبرز أفضل ما في الإنسانية، ونبلًا سيتذكره الجميع دائماً».

أما ردود الفعل الإيجابية على بطولة جاسر وذيب فلم تقتصر فقط على الطلاب السعوديين المبتعثين، بل إن نظرائهم العرب والمسلمين في الولايات المتحدة وكثير من الدول الأوروبية استفادوا منها، وتحسنت نظرة الآخرين إليهم، بعد أن كانت دوائر اليمين المتطرف تنشط لتشويه صورتهم ومحاولة الحط منها، واجتهدت في وضع العراقيل أمامهم، وانساقت وراء تلك التصرفات غير الإنسانية بعض الصحف الصفراء ومواقع الإنترنت المشبوهة التي دأبت على وصفهم بالجهل والتخلف.. كما تعمد مسؤولي بعض الجامعات منح الطلاب الوافدين درجات أقل من التي يستحقونها.

الجانب الأكثر أهمية في ما قام به جاسم وذيب يكمن في أنه خاطب الوجدان العام في الولايات المتحدة، ولامس مشاعر الشعب بطريقة مباشرة، وأوصل رسالة في غاية الأهمية، خلاصتها أن الإنسان العربي والمسلم بشكل عام والسعودي بشكل خاص يحمل في دواخله الخير للإنسانية كلها، بغض النظر عن حواجز اللون واللغة والدين، وأن الشهامة والمروءة وكريم الخصال هي أجزاء رئيسية من مكونات شخصيته..

هذه الرسالة تجسد ما بات يعرف في العصر الحالي باسم الدبلوماسية الشعبية التي تقوم على الأفعال العفوية غير المخطط لها، والتي تكشف عن حضارات الشعوب وتقديرها لقيم الإنسانية الفاضلة.

ومن فوائد ومزايا مثل هذه التصرفات النبيلة أنها تقدم فوائد لا يمكن تحقيقها ولو أنفقت في سبيل ذلك مئات الملايين لدى شركات العلاقات العامة الدولية، التي تعمل على تقديم الانطباعات الإيجابية وتصحيح الصور الذهنية السالبة، فمهما بلغت جهود القائمين عليها فهي جهود مصطنعة، دافعها تحقيق المصالح المادية.. أما التصرفات العفوية فهي أكثر مصداقية وأشد تأثيرًا وأعمق أثرًا، ذلك أنها تلامس الشعور العام بدون الحاجة إلى أي شرح أو مقدمات.

إن كان من همسة أخيرة فهي موجهة لطلابنا المبتعثين في الخارج، أذكرهم فيها بأن هذه هي أخلاقنا الحقيقية، وتلك هي المبادئ التي تربينا عليها، والتي يستمدها مجتمعنا من عمقه العربي الأصيل وانتمائه الإسلامي الراسخ، فعاداتنا ترتبط ارتباطًا وثيقًا بالشهامة والنخوة والمروءة، والإسلام يحثنا على مكارم الأخلاق التي هي جوهر ديننا العظيم.. فعلى كل منهم أن ينظر إلى نفسه على أنه سفير لبلاده في الخارج، وممثل لها وسط الآخرين، فليكن عنوانًا مشرفًا لبلاده التي أكرمها الله سبحانه وتعالى بكثير من النعم، واختصها بما لم يختص به غيرها، ولا أدل على ذلك من أنها مهوى أفئدة المسلمين في كل أقطار الأرض.

contact us
Nabd
App Store Play Store Huawei Store