Logo
صحيفة يومية تصدر عن مؤسسة المدينة للصحافة والنشر
يعقوب محمد إسحاق

وباء فتاك!

شمس وقمر

A A
يروي التاريخ بأن تسعة عشر وباءً اجتاح العالم، فأعاد صياغة الحياة في الدنيا، بدءًا بجائحة الطاعون الإنطوائي وانتهاءً بكورونا كوفيد 19 الذي فتك بالبشر، فأصاب الملايين، وقتل مئات الألوف، ومازال الناس ينتظرون علاجًا ينقذ المصابين ولقاحًا يحمي الأصحاء.

بينما كنت أراجع بعض المصادر اللازمة لبحث اشتغل فيه هذه الأيام، وقع في يدي كتاب مدرسي في مصر بعنوان: «المنتخب من أدب العرب» جمعه وشرحه كل من أحمد الاسكندري وأحمد أمين وعلي الجارم وعبدالعزيز البشري وأحمد ضيف الصادر عام 1954م.

وجدت فيه مقالا لإبراهيم بك المويلحي يشكو فيه بلسان حاج في الماضي البعيد ما رآه من فتك الوباء بالحجاج، وإهمال السلطات شأنه وشأنهم، قال فيه:

«كذا فليجل الخطب وليفدح الأمر

وليس لعين لم يفض ماؤها عذر

يقول الشاعر البيت الجزل من الشعر لغرض له حقير ثم يتركه، ويأتي من بعده من يضعه موضعه اللائق به من حوادث الزمن، وإن هذا البيت لا يحل محله في رثاء واحد من الناس، وإنما يقال ليُبكي به ما أصاب المسلمين في مكة -لم يحدد الكاتب ذلك العام- ولا غرو أن ترتعد اليد ويقف القلم، ويتلعثم اللسان عند وصف ما فعلته المنية حين قامت تفتك في الأرواح حتى فُرشت الأزقة بالموتى، وأقامت منهم كثبانًا تشهد على عجز القوم عن تدارك الأمور.

ولقد رأيت من المناظر المدهشة ما تتصاغر عنه عظيمات النوائب، وتتضاءل لديه جسيمات المصائب، فمن ذلك أني رأيت شابًا عليه شارة الحشمة والنجابة، يتخبط في التراب، ولا يستطيع إشارة ولا كلامًا، وإنما كان يطلب بعينيه المملوءتين بالدمع أن يدنو منه أحد المارة، فوجدته قد مات، فأبكاني موته غريبًا عن أهله وقومه على تلك الحالة المؤلمة، فطلبت بالأجرة من يدفنه، فلم أجد أحدًا، فكتبت ورقة وأرسلتها إلى قاضي مكة أسأله المعونة على دفن هؤلاء الغرباء المطروحين تحت أقدام الناس في الطريق، فأجابني بأن هذا لا يعلق بشيء من وظيفته، ولا يخصه الاشتغال به، فسألت عن غيره من أصحاب الحل والعقد، فوجدتهم قد فروا إلى الطائف.

وبينما أنا حيران وسط هذه المقبرة المكشوفة، إذ لاحت مني التفاتة إلى الموتى، فرأيت وليتني لم أر، رأيت امرأة اختطفتها المنية من بنت لها صغيرة، لم تبلغ سن التمييز بين النوم والموت، وقد شرعت تلك الصغيرة تحرك أمها بيديها لإيقاظها، وتبكي لعدم إجابتها، بعيون تَقَسَّمتْ نظراتها بين السماء والأرض، وتَعِدُها من خلال تلك النظرات المبهمة أنها لا تعود لشيء كانت نهتها عنه، بعبارات تستخرج الحنو والشفقة من القلوب الصخرية، فأمسكتُ بالبنت، ولا أقدر أن أصف لك كيف فصلتها عن رِمَّةِ أمها، وكيف كان حالها وحال من يراها عند آخر نظرة نظرتها إلى والدتها».

أكتفي في مقالي اليوم بهذه المشاهد المفزعة التي رواها الحاج ابراهيم المويلحي لضيق المساحة المتاحة لمقالي.

contact us
Nabd
App Store Play Store Huawei Store