Logo
صحيفة يومية تصدر عن مؤسسة المدينة للصحافة والنشر
محسن علي السهيمي

جدلية المنابت ومواطن البروز

A A
تطغى الأنانية على العرب؛ فيدَّعون أن من كان نابتًا عند غيرهم ثم تحول إليهم وبرز في علم أو فن فهو جزءٌ أصيل منهم، بغض النظر عن مَنبته الأول، في المقابل حينما يكونون هم المَنبتَ ويتحول نابتُهم إلى غيرهم ويبرز في علم أو فن تراهم عندها يدَّعون وصلاً بالمتحوِّل؛ بوصفهم المَنبت الأول، في مخالفة صريحة للقاعدة التي آمنوا بها حينما كان غيرهم هو المنبت الأول. نحن هنا أمام جدلية تتمثل في (المنبت الأول للفرد الذي يقابله الموطن الذي تحوَّل إليه وبرز فيه)، وعلى هذا نشأ الإشكال حول ثلة من الأسماء ذات المنابت غير العربية التي تحولت للديار العربية -أو وُلدت فيها- وأتقنت العربية وبرزت في علوم كـ(الفقة واللغة والفلسفة والحساب والعلوم الطبيعية والفلك..)؛ حيث يطرحها العرب بوصفها أعلامًا عربية، ويجعلون أماكن بروزها ولغتها الجديدة فيصلاً في نسبة الإنجاز للعرب. بالتالي فالقاعدة (العربية) تنص على أن من كانت منابتهم خارج ديار العرب ثم تحولوا إلى ديار العرب أو وُلدوا فيها، واندمجوا معهم وأتقنوا اللغة العربية فهم عرب وإنجازهم عربي. ولذا فعند حديث العرب وعلمائهم البارزين الذين أسسوا لحضارتهم العلمية والفكرية والأدبية تظهر لنا أسماء على شاكلة (الزمخشري ، سيبويه، ابن جني، ابن المقفع، الجاحظ، ابن العميد، الفارابي، ابن سينا، الرازي، الخوارزمي، ابن فرناس...)، وهؤلاء وغيرهم لم تكن منابتهم الأولى عربية، وهذا يعني أن المنابت الأولى ومساقط الرأس لهؤلاء لم تعد تشفع بانتسابهم لها، وإنما الفصل لمواطن بروز هؤلاء وهي الديار العربية؛ ولذا حينما يأتي الحديث عن أبرز العلماء العرب الذين ساهموا في تشكيل الحضارة العربية تجد هذه الأسماء في الواجهة. الأمر الذي لم أستوعبه هو أن يأتي العرب اليوم فيؤكدوا على عروبة كل عربي وُلد في الديار العربية لكنه تحول إلى الغرب وأتقن لغته وبرز هناك في علم من العلوم أو فن من الفنون، أو تحول أبواه إلى الغرب ووُلد هو ونشأ هناك، وتكلم لغة القوم ثم برز في علم من العلوم أو فن من الفنون، وربما حصل على جنسية البلد الغربي الذي يعيش فيه، فترى العرب يصفونه بـ»العربي» كونه عربيًّا في منابته الأولى، ويشددون على عربيته وانتسابه وإنجازه لهم، ولا تغيب عنا أسماء على شاكلة (كارلوس منعم، أحمد زويل، مجدي يعقوب، جبران خليل، محمد أركون، إدوارد سعيد، زين الدين زيدان..). الطريف في الأمر هو أن ظروف بدايات هؤلاء الأعلام العرب البارزين ومن ثَم تحولهم وبروزهم شبيهة بظروف أولئك الذين ذكرتُهم في صدر المقال، ومع هذا نجد العرب لم يستقروا على قاعدة واحدة؛ فتراهم مع من تحول إليهم يُحكِّمون مكان البروز واللغة الثانية عندما ينسبون إنجاز أصحاب المنابت غير العربية الذين تحولوا للديار العربية، وبالتالي يغدو إنجازهم -والحال هذه- عربيًّا، وتراهم مع من تحول عنهم يحكِّمون مكان الولادة والمنابت الأولى واللغة الأولى عندما ينسبون إنجاز أولئك العرب البارزين في ديار الغرب، وبالتالي يغدو إنجازهم -والحال هذه- عربيًّا أيضًا. الأمر الذي لا أعلمه، هل الغرب يمارس القاعدة (العربية) نفسها مع البارزين العرب الذي يعيشون على ترابه ويتكلمون لغته ويحملون جنسيته، فيدرجهم في أبرز الأسماء الغربية، أم أنه يسميهم عربًا تبعًا لمنابتهم الأولى؟ فإن كان الغرب ينسب أولئك العرب البارزين لنفسه، فمن حق العرب أن ينسبوا البارزين الذين قدموا إليهم من منابت غير عربية لأنفسهم، لكن عليهم (العرب) ألا يكونوا أنانيين فينسبوا إنجاز البارزين العرب في الغرب لأنفسهم أيضًا.
contact us
Nabd
App Store Play Store Huawei Store