Logo
صحيفة يومية تصدر عن مؤسسة المدينة للصحافة والنشر
محسن علي السهيمي

سقطوا من معادلة التنوير!

A A
حين تَرد مفردة (تنوير) يتجه الذهن إلى عصر التنوير الأوروبي في القرن الـ(١٨)، وإلى أبرز أعلامه ورموزه ومنظريه من الفلاسفة والعلماء.. التنوير الأوروبي قام في بداياته على عزل سُلطتَي الدين (المسيحي المحرَّف) والطبقات البرجوازية عن الحياة العامة، غير أن التنوير لم يظل ثابتًا عند مجرد عزل الدين والطبقات البرجوازية؛ بل اهتم بإعمال العقل والتفكير، وشدد على التجربة بوصفها بديلاً عن التنظير والأوهام، وأكد على الحريات الشخصية، وأعملَ منهج الشك، وهذه كلها تتخذ من (العلم) وسيلة لها؛ بوصفه نورًا يضيء تلافيف الدماغ ويفتح المغاليق، ويزيح الجهل، ليبسط مكانها نور العلم والمعرفة.

وانطلاقًا من كون العلم تُرْسًا أصيلاً في آلة التنوير الضخمة، ونظرًا لما يترتب على ظهوره وانتشاره وتمدده من تغيير مرغوب في المجتمعات، على مستوى الفهم والوعي والتفكير والتحضر والتنمية، لذا يغدو كل من شارك في بعثه ونشره، وهيَّأ له المناخ الملائم -حتى في أدنى صوره- عنصرًا فاعلاً في مسيرة التنوير، وينبغي أن يحضر اسمه حينما يحضر الحديث عن التنوير.

وعلى هذا فبالعودة للبدايات الأولى لحركة التعليم في المملكة نجدها قامت في ظل عدم وجود للتعليم النظامي، عدا ثلاث أو أربع مدارس (شبه نظامية) في مكة وجدة، وهذا يعني أن التعليم ومدارسه وهيئته التعليمية كانت أمرًا حادثًا وجديدًا على معظم مناطق المملكة، يضاف إلى ذلك أن نواتج التعليم ومخرجاته لم تكن قيمتها مقدَّرة، وبالتالي فركوب مركب التعليم يعتبر مغامرةً نتائجُها غير مضمونة.

من هنا بذلت الدولة ممثلة في (مديرية المعارف، ثم وزارة المعارف) جهودًا جبارة لنشر العلم، وإقناع المجتمع بالتعليم وأهميته في وقت كان فيه منصرفًا إلى غيره من المهن ذات العوائد المضمونة.. وعليه، فكل من ساهم في نشر العلم بدءًا بقادة الدولة، مرورًا بالمديرية ثم الوزارة وما يتبعها، يُعتبرون مشاركِين في عملية التنوير، غير أن ما يهمنا أن هناك فئة شاركت في عملية التنوير لكن الأضواء لم تُسلط عليها، وأعني بها أولئك الذين وفَّروا المقارَّ لممارسة عملية التعليم والتعلُّم، هذه المقارَّ -في بدايات حركة التعليم- ربما كانت (ظل شجرة أو خيمة أو عشة أو عريشًا أو بيت حجر، أو بيت مدر) خصوصًا في البوادي والقرى والأرياف، ولكنها كانت ركنًا أصيلاً في عملية التعلُّم..

وربما يقال إن هدف أولئك ماديٌّ، وهو وإن كان ماديًّا فيكفيهم أنهم آمنوا برسالة العلم قبل غيرهم، ووفروا للتعليم مقارَّ مع أن استمرارية ريعها غير مضمونة؛ فربما يتناقص عدد الطلاب، وربما ينصرفون كليًّا عن المدرسة فتُقفَل، ولذا كانوا صفحات ناصعة في سِفر التنوير.. ولكُم أن تتخيلوا حال المجتمعات لو أن هؤلاء التنويريين لم يوفروا تلك المقارَّ، لكُم أن تنظروا اليوم إلى المجتمعات -تعليميًّا، ثقافيًّا، تنمويًّا- التي كان فيها تنويريون سباقون قاموا على توفير تلك المقار.. اللافت للنظر أن بعض هؤلاء كانوا أسبق من بعضهم إلى أمر لم يتفطن له الناس، وهو أنه عندما يصدر قرار بفتح مدرسة في قرية ما ولا يتقبلها أهل تلك القرية؛ لعدم قناعتهم بها، أو لعدم ابتعاث أحد منهم ليوفر للمدرسة مقرًّا، ترى أحدهم في قرية أخرى يسارع بإيجاد مقر لها في قريته وربما على حسابه، بل ويحمل أغراض المدرسة التي تم اعتمادها -وهي بالطبع قليلة- على دابته، أو في سيارته المتواضعة، ليستقر بها المقام في قريته، وفي هذا دلالة باذخة على تنويريته مهما كانت نيته؛ وذلك عطفًا على ظروف تلك الفترة، وأعرف في بيئتنا وما حولها ثلاث حالات كهذه.

فشكرًا لأولئك التنويريين -في ذلك الزمن الصعب- الذين سقطوا اليوم من معادلة التنوير، ولذا أراهم جديرِين بأن تُخلد أسماؤهم على أحد مرافق تلك المدارس؛ وفاءً معهم، وتكريمًا لهم، واعترافًا بصنيعهم مع الأجيال.

contact us
Nabd
App Store Play Store Huawei Store