Logo
صحيفة يومية تصدر عن مؤسسة المدينة للصحافة والنشر
أ.د. صالح عبدالعزيز الكريّم

لحظة وداع

A A
كنت قد زرته في المستشفى وكان حنونًا عطوفًا محبًا لدينه وربه ويخشى الآخرة وبعد أن أحاط به المرض من كل جانب وأحس أن الموت نازل بساحته لا محالة أشعر أهله بدنو أجله وقرب رحيله وكتب وصيته وماهي إلا أيام حتى أسلم روحه إلى بارئها وأخذت إجراءات تجهيزه من غسيل وكفن تأخذ طريقها، وعند تكفينه ترك أهله وجهه خارجًا من الكفن حتى يلقي عليه من أراد من أقاربه وأهله النظرة الأخيرة وكان مشهدًا بالنسبة لي آخذًا بكل تلابيب قلبي ووجداني إذ هيبة التوديع ولحظة الوداع مؤثرة وكان وجهه وضّاء وكله نور ينبض بحيوية معطيات عمله الخيري الذي كان يقوم به في حياته وتكسو ملامح وجناته سماحة تنمي عن ما كانت عليه أيام تواجده بين الناس من عفو وصفح وحب للآخرين، كان ذَا قلب لا يعرف الحقد بل يتقرب للآخرين بما يحلو لهم من الود، كنت أنظر إليه وهو مسجى في مكفنه وأتخيله يوم أن كان يمشي بين الناس الخطوة تلو الخطوة واصلا رحمه، متواصلا مع أقاربه، زائرًا لجيرانه، يتفقد في سيره الفقراء والمحتاجين، ويهمس كما عودنا في آذاننا أهمية بر الوالدين ورحمة الزوجات وتربية الذرية، كم كان عظيمًا في ترفعه عن سفاسف الأمور، تذكرته يومًا عندما رفع أحد الأشخاص صوته عليه ونال منه بغير وجه حق فبادره بملاطفة وكتم غيظه وكأن شيئًا لم يكن وكلما أقابل خصمه يقول لي كم كان فلان حليمًا معي..
وأنا ذاهب بمخيلتي أتذكر أيامًا معه فإذا بأحد أبنائه يصل من سفره ليراه وهو مسجى على سرير الموت فرمى نفسه عليه يقبل رأسه وجبينه ويلثم وجهه وكله بكاء ودموع ونحيب صوت وزمجرة قلب ويخاطبه كأنه حي قائلا: «طيب انت فين رايح وليش تاركني، أنا ما شبعت منك» ووالله دموعه تنهال على خديه تتابعًا وأخذني البكاء وبكى كل من كان معي في الغرفة فما أقسى لحظة الوداع، ويقف على مقربة من الميت طفل صغير لا يدري ماذا يقول إلا أنه الآخر تجاوب مع جو الغرفة المليء بالدموع والبكاء والأنين وأخذ الصغير يبكي على والد والده ولا يعرف وهو في لحظة الوداع هذه التي نحن فيها ما معنى الحياة ولا الموت وإلى أين ذاهب جده، لكنها لحظة الوداع التي يجب أن تتجاوب معها كل القلوب وتنهمر من العيون كل الدموع فما أقسى الفراق وما أصعب الفقد وما أعظم المصاب، وقد سمى القرآن الكريم الموت فعلا مصيبة حيث يقول سبحانه وتعالى (إن أنتم ضربتم في الأرض فأصابتكم مصيبة الموت) وكل موت يخلف بعده آهات وأحزانا ولحظة الوداع تبقى في القلب كأخدود ينشق في الأرض تظهر قسماته على النفوس وتبقى آثاره في القلوب ولا تمحوها إلا لطائف الله بالصبر ولا تذهب أوجاعها إلا التذكر بفقد الحبيب صلى الله عليه وسلم، كما ورد ذلك في الحديث الصحيح عن عبدالرحمن بن سابط عن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا أصيب أحدكم بمصيبة فليذكر مصيبته بي فإنها أعظم المصائب عنده» وفي بعض الروايات أن تذكر المصيبة بمصيبة موت الرسول صلى الله عليه وسلم فإن في ذلك تخفيف على نفس أصحاب المصيبة لأنه ليس هناك مصيبة أعظم من مصاب الأمة بفقد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
contact us
Nabd
App Store Play Store Huawei Store