Logo
صحيفة يومية تصدر عن مؤسسة المدينة للصحافة والنشر
طارق علي فدعق

بـرُوج

A A
فوجئت بإحدى الروابط اللغوية العجيبة في مجال العمران.. كلمة برج باللغات الجرمانية معناها «قلعة»... وتلك اللغات تشمل الإنجليزية، والألمانية، والهولندية، والنرويجية، والدنماركية، والسويدية، والجنوب أفريقية، وغيرها... وغالباً تعود الكلمة إلى القرن العاشر الميلادي حين قام الملك «ألفرد العظيم» الإنجليزي ببناء قلاع للدفاع ضد قراصنة اسكندنافيا الشهيرين باسم «الفياكنج». ولكن المعنى الأقدم والأكثر دقة هو المعنى العربي.. كلمة برج معناها «حصن» أو المنشأة المرتفعة المستقلة. وتصف الكلمة العديد من المدن التاريخية لأنها كانت مدن قلاع وحصون، ومنها على سبيل المثال لا الحصر: هامبرج في ألمانيا، وسترازبرج في فرنسا، وسالزبرج في النمسا، وسانت بطرس برج في روسيا، وبيتسبرج في الولايات المتحدة، وجوهانسبرج في جنوب أفريقيا والعشرات غيرها... وهناك المزيد فكلمة «برجوازية» لوصف الطبقة المخملية من المجتمع كانت مقرونة بالحياة في المدن المحصنة.. يعني وجود لفظ «برج» لاسم المدن كان يعزز صفة التحصين.. وللأبراج إضافات حضارية أهم من مجرد أسماء الأماكن، فهوية بعض المدن مقرونة بأبراجها وعلى سبيل المثال برج «إيفل» الباريسي. ومن الطرائف أن عند بنائه في 28 يناير 1887 تقدم مئات من «رواد الفكر» من معماريين، وكتاب، ومؤلفين، بشكوى ضد تشييد البرج لأنه لم يكن لائقاً بجمال المدينة، وأصروا على إزالته بعد مناسبة المعرض العالمي في باريس في عام 1889.. وهذه على ما يبدو هي إحدى تحديات بعض ممن يدعون ريادة الفكر على مر السنين.. لا عندهم ريادة.. ولا فكر. ومن الأبراج المتميزة أيضاً برج «بيزا» المائل في إيطاليا.. وبالرغم من حاله المائل فهو من معجزات العالم الهندسية.. وللعلم فكانت مدينة «بيزا» هي إحدى عواصم الأبراج التاريخية.. ومن الغرائب أن اكتشاف ميول البرج بطريقة خطيرة مقدارها حوالي خمس درجات لم توقف بناءه عبر فترة 199 سنة.. بالرغم من اكتشاف الميلان الخطير عند الانتهاء من الطابق الرابع بنهاية القرن الرابع عشر، استمر العمل في تشييده بكامل طوابقه السبعة زائد ملحق الأجراس على رأسه في القرن السادس عشر. الطرفة هنا هي أن البرج اشتهر بحاله المائل، ولكن شهرته الأكبر مفروض أن تكون أكبر من ذلك. والسبب أنه كان موقع التجربة التاريخية لإثبات فكرة الجاذبية من العالم الفذ «جاليليو».. صعد العالم الإيطالي إلى أعلى البرج ورمى كرتي الحديد بأوزانهما المختلفة ليثبت تساوي تسارعهما بسبب الجاذبية في نهاية القرن السادس عشر.. قبل أن يشتهر العالم الانجليزي إسحق نيوتن بهذا الاكتشاف بحوالي سبعين سنة.

وفي ألمانيا عام 1943 وفي خضم الحرب العالمية الثانية شيدت بعض الأبراج الخرسانية العملاقة في المدن التي كانت تتعرض للقصف الجوي المكثف ومنها العاصمة برلين، وهامبورج. وكانت تلك المنشآت الأقرب إلى القلاع العملاقة تمثل ترسانة مدافع مضادة للطائرات، وكانت أيضاً مأوى للسكان. والغريب أنه بالرغم من المحاولات لإزالة تلك الأبراج الضخمة، بقيت صامدة بعد 76 سنة من انتهاء الحرب. وبعضها يستخدم اليوم كمخازن طاقة حرارية لتدفئة المنازل.

والمثال الأخير على الأبراج من فلسطين الشقيقة. ففي تحليل العمارة الإسرائيلية، كانت إحدى أهم البصمات التصميمية هي كلمتا «حوما اميجدال» ومعناها بالعبرية البرج والسور. وتحديداً، ففي فترات الاحتلال المبكرة لفلسطين، كانت تصاميم الوحدات السكنية المنفصلة في المستعمرات تشمل البرج والسور كبصمة عسكرية تمثل القلاع. وللعلم فلا تزال تستخدم في عمارة الوحدات الريفية في المستوطنات.

أمنيـــة

تُفاجئنا البروج بمعلومات لا نتوقعها في تاريخ العمران. أتمنى أن نتذكر أنها تنبع من المعنى العربي. وهي أكثر من كونها مجرد منشآت هندسية، فوراء كل منها قصص تاريخ علمي، واجتماعي، وسياسي يستحق وقفات تأمل.

والله من وراء القصد.

contact us
Nabd
App Store Play Store Huawei Store