Logo
صحيفة يومية تصدر عن مؤسسة المدينة للصحافة والنشر
د. سهيلة زين العابدين حماد

الوصية في مشروع مدونة الأحوال الشخصية

A A
فيما يتعلق بالوصية في مسودة مشروع مدونة الأحوال الشخصية استوقفتني المادة (182) بفقرتيها اللتين تنص الأولى منهما على الآتي: «1. لا وصية لوارث إلّا إذا أجازها بعد الوفاة باقي الورثة، وإن أجازها بعضهم تنفذ في نصيبهم. 2. المعتبر يكون الموصى له وارثًا هو وقت وفاة الموصي».

فما جاء في هذه المادة لا يتفق مع قوله تعالى:(كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِن تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ ۖحَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ فَمَن بَدَّلَهُ بَعْدَمَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ ۚإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ) [البقرة: 180-181]

فكيف لا وصية لوارث والله جل شأنه يقول:(كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِن تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ)، مؤكّدًا عليها بقوله:(حقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ فَمَن بَدَّلَهُ بَعْدَمَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ).

ولكن كما يبدو أنّ واضعي مسودة المدوّنة أخذوا بقول القائلين بالنسخ والمنسوخ في القرآن الكريم، وأنّ آيات المواريث نسخت آية الوصية للوالديْن والأقربين من الورثة. ومع أنّه لا يوجد ناسخ ومنسوخ في القرآن الكريم، ورغم تأكيد بعض المفسرين القائلين بالنسخ على أنّ آية الوصية محكمة غير منسوخة، إلّا أنّنا نجد الفقه المعاصر المطبّق اليوم لم يُعِدْ النظر فيها، بل مُصراً على:

1. إعطاء الأولوية المطلقة للإرث وأحكامه، وليس للوصية أحكامها.

2. الإصرار على نسخ آيات الوصية -وبخاصة قوله تعالى:(الوصية للوالدين والأقربين) بحديث آحاد منقطع مناقض للقرآن رواه أهل المغازي هو: «لا وصية لوارث»، متجاهلًا عدم وجود نسخ في القرآن الكريم إلّا فيما يختص بشريعة موسى عليه السلام، سواء كان بالنسخ طبق الأصل، أو بالإنساء والإتيان بخير منها.

3. إقرارهم للوقف الذي هو نوع من الوصية، والذي قد يكون لبعض الورثة، وحرمان بعضهم الآخر!

وفاتهم أنّ نسخهم الوصية للوالدين والأقربين قد خالفوا قوله تعالى: (وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُواْ مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُواْ عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللّهَ وَلْيَقُولُواْ قَوْلاً سَدِيدًا) [النساء:9]،وقوله:(وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ) [البقرة 240])» وبموجب هاتيْن الآيتيْن يدخل في نطاق الوصية من الأقربين بعد الوالدين المسنين، أو المريضين، الولد المعاق بين أولاد آخرين أسوياء، الطفل الصغير بين إخوة آخرين منتجين، فقد أنفق الأب الكثير عليهم حتى أصبحوا منتجين، والصغير يحتاج إلى الكثير حتى يصل إلى مرحلة الإنتاج، فليس من العدل أن يتساوى الكبار المنتجون بالأطفال الصغار والبنت المتزوجة التعيسة مادياً ومعنوياً بين بنات متزوجات أسعد حظاً، والبنت التي بلغت سنًا كبيرًا ولم تتزوج، أو ترملت، ولديها أطفال، ولا دخل لديها سوى ما سيأتيها من أبيها، والزوجة المريضة والمسنة، مع عدم التمييز في الوصية بين الذكور والإناث، يوضّح هذا[النساء:7] مع الالتزام بعدم ترك الوصية، مهما كانت التركة (ممّا قلّ منه أو كثُر)، وهي نصيب مفروض، بينما الميراث حظ يفرضه الله (فريضة من الله).

فمن واجب الموصي أن يوصي بجزء من ماله، ولا يحق له أن يخرج في وصيته على حدود المعروف السائد، لقوله:(فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ)[البقرة: 182]

فالوصية جُعلت للأمور الفردية الخاصة التي يكون الموصي رب الأسرة أعلم باحتياجات أفراد أسرته، بينما الميراث عام يتعلق بالمجموعات، فمجال الاختيار في حقل الوصية مفتوح، وأنّ القرار المتروك فيها للموصي، لا حدود له ولا رقابة عليه إلا تقوى الله ومخافته. أي أنّه يمكن في مجال الوصية أن يكون نصيب الولد المعاق أكبر من نصيب أخيه السوي، ونصيب الصغير الذي لم يكمل دراسته أكبر من أخيه المتخرج المنتج. كما يمكن أن تنص الوصية على أمور لا ينص عليها الإرث، فلو كان الخالق يريد أن يكون الإرث بديلًا للوصية لما فرض الوصية، أو لَخَصَّ الوالدين والأقارب غير الوارثين بالذكر.

فإن كان بعض المفسّرين لم يستوعبوا أبعاد الوصية للورثة من الوالدين والأقارب، فليس من حقهم أن يتخلصوا من عدم فهمهم، بالتجرؤ على الله بالقول بنسخ آية الميراث لآية الوصية فيما يتعلق بالورثة من الوالديْن والأقارب.

والذي أرجوه من واضعي مسودة مدونة الأحوال الشخصية أن يتمعنوا في قوله تعالى (مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) هل يُعقل القرآن ينسخ نفسه، وهو محفوظ منذ الأزل في اللوح المحفوظ؟

وهل يُعقل القرآن الكريم ينسخ نفسه، ولا يوجد فارق زمني بين أول آية وآخر آية نزلت تستدعي النسخ، فهل (23)عامًا تستدعي النسخ أم (3200) سنة بين شريعة الله التي نزلت على سيدنا موسى عليه السلام، وشريعة الإسلام التي نزلت على سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، فالمقصود بالنسخ شريعة اليهود وليس نسخ القرآن لنفسه، فآية الوصية للوالديْن والأقربين لم تُنسخ، فهي كما قال تعالى:(حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ فَمَن بَدَّلَهُ بَعْدَمَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ).

contact us
Nabd
App Store Play Store Huawei Store