Logo
صحيفة يومية تصدر عن مؤسسة المدينة للصحافة والنشر
د. عادل خميس الزهراني

الناقد والفيلم والسينمائي: سؤال المعنى ورسالة الفن

A A
هل في لثغةِ طلال مداح جمالٌ أخاذ يسرقنا لعالمه الشجي فعلاً؟! أم أن حبنا له أعمانا فصرنا نرى الوجود به جميلاً؟!

في العام ١٩٩٠م ظهرت أغنية (ليلةْ تُمرّين)...

العام ذاته شهد أحداثاً أقل أهمية؛ خسر مارادونا كأس العالم، وخرج مانديلا من السجن، انهار الاتحاد السوفييتي كذلك، وحصل قورباتشوف على نوبل للسلام، فتنازلت ثاتشر عن السلطة.

تعاونَ طلال مع بدر بن عبدالمحسن، والبدر عبقرية عجيبة؛ هل هنالك كاتبُ أغنياتٍ أجمل؟! أشك في ذلك.. لطالما تصورت -في مراهقتي- البدرَ حين يكتب قصيدة، يظل محلّقاً.. يسكن معراجاً بين الأرض والسماء، تتجاذبه شياطين الشعر وملائكة الماء.. لطالما تصورت ذلك في مراهقتي.. ولا أزال.

نحن المجانين بطلال؛ نذكر يوماً طلعتْ فيه (قصت ضفائرها ودريت)، فلم يكن للشمس حاجة، وكانت (صعب السؤال) نبعَ ماءٍ يتدفق، وحين شعّت معها (ليلةْ تُمرّين)، أنخنا المطايا، وأشرعنا الحنايا، وذُبنا كالغيم في كفوف الصبايا..

«ليلة تمرين..

عطرك السافر فضح ورد البساتين.

وكثْر الكلام

صحيح جرّحتِ الظلام.. بالخد وبنور الجبين

ليلة تمرين!»

تصوّر الأغنية لحظة مرور أنثى، لا يضاهي مرورها أي مرور، ولا أي حدث كوني آخر.. هذا المرور النادر يحتاج تعبيراً نادراً، لغة بكراً غير مستهلكة، وأصواتاً لا تنتمي لذاكرة دلالية.

سأحدثكم قليلاً عن مملكة الراء في (ليلةْ تُمرّين)؛ في النص أربعة وعشرون راءً.. راء تلفح راءً..

لكنّ طلالاً يجعلها -من خلال تكرار المقاطع- سبعة وخمسين (تتكرر الراء في المقطع الاول١٥ مرة، وفي الثاني٢٣، بينما يضم الثالث 19 راءً).. وما أصدق الجاحظ حين ميّز لثغة الراء عند «كبار الناس وبلغائهم وأشرافهم وعلمائهم»! وإن كان واصل بن عطاء (وهو المفوّه البليغ) قد حاول إلغاء الراء في خطبته العصماء تجنباً وغضاً، فإن طلالنا فعل العكس ترنّماً وشجواً، حين سكب على قلوبنا طوفاناً من الراءات الملثوغة، ليستحيل المقام.. شجناً بين الصحو والمنام.

«والإنسان.. إذا كرر فعْلَ شيء ما، من نوع واحد مراراً كثيرة حدثت له ملكة اعتيادية، إما خلقية أو صناعية»، كما يقول الفارابي في حديثه عن تشكّل الحروف عند أمةٍ ما.. يكرر طلال الراء ملثوغة سبعاً وخمسين مرة.. والراء من حروف اللسان التي تتسم بالتكرار في الأصل، حتى تصبح الراء الواحدة راءات متعددة، وفي الأغنية تصادفنا راء المرور في ليلةْ تُمرّين (وهي محور الراءات)، كما تطوف حولها راء العطر، وراء الورد، والتغريد، والعرس، والغيرة، والروح، والتجريح... فتصبح الراء مركزاً (بتكرارها، بتكرر صوتها، برقرقة عبورها التي تتسق مع مرور الموصوفة في الأغنية)، وتصبح لثغة الراء أصلاً في النطق، حيث يخرج صوتٌ جديد، يجترحه هذا المرور غير العادي، هذا المرور الذي يجرح الظلام، ويفضح ورد البساتين فيشعل غيرته.

وهكذا تكمن الشعرية في الاختلاف، في طرافة الضرورة كما يقول ابن جني، وفي النظام وصدعه كما يقول لوتمان.. وطلال يغني براءات مدغومةٍ ومبللة بشجن شجي؛ تتالى الراءات فتختلط اللثغات، وتتراقص الأصوات؛ فنطرب، ونحلف أن طلالاً أفصح من غنى وتغنى.

وكما يكون مرور هذه العجيبة (التي تعنيها الأغنية) أمراً نادراً، فعلاً كونياً لا يكاد يتكرر، وحدثاً يعيد تأثيث أشياء الكون، فإن هذا المرور يحتاج أبجدية جديدة، وصوتاً مختلفاً، لم تسبق له اللغة، فتكون اللُثغة حينها الصوتَ الجديد، والأبجدية العذراء التي تصف مروراً لا يضاهيه أي مرور؛ صوتاً يشبه غرغرة الروح في حنجرة عاشق، تتويجاً لانتشاء الراء، وتمردها على مخرجها (اللساني المحدود).

في آخر مقطع، حين يطلق طلال راءاته الثلاثة: (غيرة، الورد، جرّحها)؛ يزرعها في مدار أبجدية جديدة، تحتضن مفهوماً مشاغباً لفصاحة لا تنتمي لهذا العالم، هذا العالم الذي لم يتنبأ بليلة المرور، ولم يستطع مواكبته بعد ذلك.

سعيد السريحي يقول إنه يحب طلال، ويفضّله على أبي نورة، ربما لأنه لثغته تشبه لثغة طلال، وأنا طلالي من رأسي لأخمص قدميّ، ولا لثغة لدي.. الأصدقاء -يشاكسوننا- حين ظهرت (ليلةْ تُمرّين): «الشاعر ورّط طلال بقصيدة محتشدة بالراءات»، هكذا كانوا يقولون؛ نحن -المجانين بطلال- كنا نبتسم -حينما نراهم يضحكون- ونردد: «يا ليت قومي يعلمون...»!!

contact us
Nabd
App Store Play Store Huawei Store