Logo
صحيفة يومية تصدر عن مؤسسة المدينة للصحافة والنشر
عبدالواحد سعود الزهراني

في وداع أبي

A A
أما بلفظ اللسان فلن نقول إلا ما يرضي ربنا: «إنا لله وإنا إليه راجعون».. وأما ما في القلب فالله وحده الذي يعلم كم أنا على فراق أبي لمحزون.. وأن قواميس العالم لا تسع مثقال ذرة مما تأجج في قلوبنا من لوعة الفقد.

ما أتعس الأحياء إن كان كل من فقد والده عانى ما أعاني، ولعمري فلا غرابة أن عادل حزني حزن العالم بأجمعه، فأنا لم أفقد والدي فحسب، بل فقدت الوالد، والصديق، ورفيق الدرب، والعزوة، والمستشار، والأنيس، والمربي.

فقدت الرجل الذي تشكل فيه عالمي كله فرحي وأملي وصبري ونجاحي، فقدت الرجل الذي صنع شخصيتي وذائقتي، ولم أجد نفسي إلا أحد أفراد فرقة موسيقية تعزف النوتة التي كتبها حرفًا حرفًا.

ليتك تعلم يا أبي كم كنت بك قويًا، وليتك تعلم كم جعلني رحيلك بائسًا لا أكاد ألوي على أحد.

ليتك تعلم أن انفراج ابتسامتك كان بوابتي إلى الحياة، وأني بدون تلك الابتسامة كمن أغلقت في وجهه كل أبواب الدنيا.

ليتك تعلم أني من أجلك كنت أطلب الحد الأعلى في كل مجال أجد نفسي فيه.

ليتك تعلم أنك كنت لي كل شيء، لم أشعر يومًا ما أني مستقل عنك، بل أني امتداد طبيعي لك، أعيش أقصى درجات السعادة إذا عرفت أني تصرفت بما يليق بشموخك وبساطتك ونبلك وقيمك السامية، وأعيش أنكد ساعاتي عندما أقرأ في نظرتك امتعاضًا من قول أو فعل لا يرقى إلى ما تطمح إليه.

ليتك تعلم كم كان يؤلمني أن إمكاناتي المتواضعة لن ترتقي إلى سقف طموحاتك، وأن البون شاسع جدًا بين ذكائك العبقري وبديهتك المتوقدة، وما أنا عليه من السطحية والبساطة.

مع أبي -رحمه الله- كنت أرى الأخلاق والقيم والصفات المثلى مجسدة في مواقف لا تحصى.. أبي الفقير الذي كان الملاذ الأول لكل محتاج في مجتمعنا، كنت أراه بعيني يجمع الريال على الريال حتى إذا جاءه محتاجٌ أخرجها ألوفًا وفرج بها كرب الناس.

أبي ذو اليد الواحدة، الذي كان ينجز من الأعمال ما لا ينجزه العصبة من أشداء الرجال.

أبي ذو الفراسة التي لا تكاد تخطيء، وصاحب الميزان الدقيق الذي يقيس الرجال بكل كفاءة، أبي الذي لا يكذب، والذي يمتلك حاسة فريدة لكشف الكذب في ثنايا الحديث، فيقول للمتحدث في الحال: «هذا غير منطقي».

أبي العفيف الذي قال لي عندما اصطحبته إلى البحر الميت ورأى الناس شبه عراء «ليش وأنا أبوك تختم لي بذي الخاتمة» وحجب بصره بيده وانطلق يستغفر ويحوقل.

أبي الوفي الذي قال للرجل الكريم الذي رباه عندما خيره في البقاء أو المغادرة للالتحاق بفرص المدنية والوظائف: جيتك في ضعفي وأنت في قوتك وليس من مروءتي أن أتركك وأنا في قوتي وأنت في ضعفك.

أبي الذي كان يقتني أجود السلاح، ويقيم ما في أيدي الناس منه بمجرد النظر، والذي لا يذكر أنه «ثنى» على هدف، وبرغم من تمكنه، فلم يدخل في المزايدات والاستعراضات والتحديات التي كان لا يخلو منها المجتمع.

أبي الذي كان له الحظ الوافر من كل علم غانم، والذي قال عنه أحد حكماء القبيلة: ما لقيت أحدًا علومه مثل اسمه إلا سعود.

أما الشعر، فلم يكن والدي شاعرًا عاديًا، بل كان من طبقات الشعراء العليا، ولمفردته وحبكتها تميزها وطابعها المتفرد، وهو مع تمكنه الشعري من أجمل الناس صوتًا، وأقواهم حضورًا وتأثيرًا وكاريزميا، وأكاد أجزم أن سعود بن سحبان من أعظم شعراء الشقر في أجياله التي عاصرها، ولم يحل بينه وبين أن يكون الاسم الأهم إلا بساطته وعدم قناعته بالأساليب التي ننتهجها نحن للوصول إلى ذهنية المتلقي.. وقد يكون ظهوري المبكر عاملاً جعله يؤثر أن يترك لي جزءًا كبيرًا من المساحة التي كان يفترض أن تكون له وحده.

أبي رحمه الله كان يصنع من أبسط المواقف قطعًا فنية تجمع بين البساطة والفكاهة والحكمة.

أبي الذي كان ملء زمانه، وملء كل الأماكن.. عندما رأيت الحزن في وجوه الآلاف الذين توافدوا للعزاء، وسمعت الكثير من الأصوات التي تنشج وتلهج بالدعاء في مكالمات الهاتف، وعندما أطلب من الناس أن يسامحوه فيكاد يكون الرد متفق عليه «ما عرفنا منه وعنه إلا كل طيب» تأكد لي أن إعجابي بأبي لم يكن فقط لأنه أبي، بل لأنه رجل عظيم، عظيم جدًا.

الشيء الوحيد الذي سأخذل فيه عشم أبي أن أكون مثله في الجلادة والصبر، وهذا ما لا يطيقه عبدالواحد يا أبا متعب.

بعدك يا أبي، لم تعد تعني لي الدنيا بكاملها إلا محطة انتظار، لأستقل القطار الذي يلحقني بك في الموعد الذي يختاره الله.

رحمك الله يا والدي سعود وأسكنك فسيح جناته.

contact us
Nabd
App Store Play Store Huawei Store