Logo
صحيفة يومية تصدر عن مؤسسة المدينة للصحافة والنشر
أ.د. صالح عبدالعزيز الكريّم

«أفتُمارونه على ما يرى»

A A
حاورتُ يومًا شابًّا -في ذهنه شيء من الغبش عن دينه، ومن ذلك مسألة «الإسراء والمعراج»- عندما تَوجَّه لي بسؤال قائلاً: هل ممكن أن يكون الرسول عليه الصلاة والسلام ذهب إلى القدس في ليلةٍ واحدة وعاد؟.. فقلتُ له كيف لو أخبرتك -الآن- أنني أستطيع الذهاب إلى القدس أو حتى إلى إيطاليا وأعود خلال ساعات، وليس خلال ليلة كاملة، هل ستُصدِّق أم لا؟.. قال أُصدِّق، لأن الوسيلة الآن هي «الطيران»، فقلتُ: إذاً ليست المشكلة في عدم التصديق أن هناك إمكانية لأن يحدث ذلك في ساعات، لأن هناك وسائل تُحقِّق ذلك، والإمكانيات (الوسائل) هناك مَن يملكها، وهو الله سبحانه وتعالى، فإن كنتََ تُؤمن بالله، فليس هناك أدنى شك أنَّك تُؤمن بأن النبي عليه الصلاة والسلام أُسرِي به إلى بيت المقدس، لأن الله سبحانه وتعالى يقول: (سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ)، فرأيتُ شيئاً من البِِشر والإيمان قد تهلّل على وجهه، فحمدتُ الله، فقال كلامك مُقنع فيما يخص الإسراء، وأنَّه ممكن، لكن المعراج إلى الآفاق العالية بسرعة الصاروخ، صعب أن تتم إلا في الأحلام!! فكيف اخترق عليه الصلاة والسلام كل آفاق السموات، ليصل إلى أقرب نقطة إلى الله عز وجل بساعات؟، فقلتُ له: ما دام أن الله أخبر بذلك، وذكر صعوده ومعراجه، فلابد أن نُؤمن به، حيثُ جاء ذلك تفصيلاً في سورة النجم: (وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى).

فمدلولات كل كلمة في هذه الآيات من سورة النجم، تُؤكِّد حيثيات معراج النبي عليه الصلاة والسلام إلى سدرة المنتهى، لذلك أنكر الله سبحانه وتعالى على من يُنكر ما رآه الرسول -صلى الله عليه وسلم- عندما أعرج به في قوله تعالى: (أفتُمارونه على ما يرى)، أي أتُكذِّبونه وتُجادلونه فيما رآه بعينهِ، وتحقق منه ببصرهِ، لذلك فإن الله سبحانه وتعالى يُؤكِّد ما رآه النبي عليه الصلاة والسلام بقوله تعالى: (ما كَذَب الفؤاد ما رأى)، فالذي رآه هو حقيقة أبصرها بقلبهِ، وشاهدها ببصرهِ، وذلك تحقيق لمعنى العروج إلى الآفاق، كما قال تعالى:

(فاستوى وهو بالأفق الأعلى)، أي جبريل عليه السلام، ومعه الرسول صلى الله عليه وسلم.

لقد أنزل الله سبحانه وتعالى سورة تُوضِّح إمكانية العروج إليه، وهي سورة المعارج في قوله تعالى: (تعرج الملائكة والروح إليه)، فصعود الملائكة وخاصة جبريل (الروح) إلى الله، أمر مُقرَّر لأن في قوله تعالى: (إليه)، الهاء هنا عائدة على اسم الله سبحانه وتعالى، والذي صعد بالرسول صلى الله عليه وسلم، هو جبريل عليه السلام فهو مَن خوَّله الله سبحانه وتعالى بالقدرة على الصعود إلى الآفاق، يعني هو الوسيلة، (الإمكانية ووسيلة الوصول)، هذا وقد ثبتت تفاصيل رحلة المعراج في الأحاديث الصحيحة، وما دام أنها مُعلَّقة بأمورٍ غيبية، فالإيمان بالغيب من صفات المؤمنين، (آمن الرسول بما أُنزل إليه من ربه والمؤمنون)، والغيب هنا غيب إخبار، وغيب الإخبار من الإعجاز، وليس كل غيب يمكن أن يُدركه العقل، لذلك عندما انتهز كفَّار مكة إخبار الرسول لهم بحادثة الإسراء والمعراج، وأنه مما لا يُمكن تصديقه ليُواجهوا سيّدنا أبا بكر الصديق رضي الله عنه ويثنوه عن الإسلام وتصديق دعوة محمد، قال لهم: «والله لئن كان قال هذا الكلام لقد صدق، فوالله إنه ليُخبرني أن الخبر يأتيه من السماء إلى الأرض فأُصدِّقه».. يقصد خبر السماء «الوحي»، لاشك أنه «الإيمان» الذي ملأ قلب سيدنا أبي بكر -رضي الله عنه- ولذلك سُمِّي بالصديق، فالإيمان يُبدِّد غياهب الشك، وهو سلاح المؤمن في الأمور الغيبية التي جاء بها الوحي، (إن هو إلا وحي يوحى)، فهز الشاب رأسه وتمتم بكلمات أدركت منها ما يُفيد أن الله على كل شيء قدير.

ولابد لنا أن نعلم أنه إذا تحقَّق إيمان القلب بمعجزة الإسراء والمعراج، لا يهم بعد ذلك تاريخها، والاختلاف حول زمان تحديدها، لأن الاعتناء بالإيمان أهم من الزمان.

contact us
Nabd
App Store Play Store Huawei Store